سقوط الأيوبيين والعباسيين |
حدثت في هذه الأثناء حوادث خطيرة في العالم الإسلامي دالت على أثرها الدولتان العظيمتان اللتان كانتا تهيمنان على المقدرات السياسية في الحجاز إلى حد وبذهابهما انتقلت السياسة إلى دور جديد نتحدث عنه في الفصول الآتية. |
ولعلّنا لسنا في حاجة إلى تفصيلات مطولة عن زوال الدولتين العظيمتين لأن المطلع على التاريخ الإسلامي يعلم أن الدولة الأيوبية ثار عليها مماليك الأتراك وأعلنوا سقوطها في سنة 648 وأسسوا على أنقاضها حكومة جديدة دعيت بدولة المماليك الأتراك كما يعلن أن الدولة العباسية بعد أن ظل الفساد يسري في كيانها نحواً من أربعمائة سنة على أثر انقضاء دورها الأول الذي كانوا يسمونه العصر الذهبي ثار عليها التتار في عام 655 وقضوا على آخر خليفة فيها. |
ومن الغريب أن تتشابه في كل من الدولتين عوامل السقوط وأسبابها، فقد كان أصحاب السلطان في كل من الدولتين يستعينون بمواليهم من الأتراك لتثبيت دعائمهم ويولونهم من النفوذ والسيطرة ما يهيئ لهم مراكز ممتازة، فأصبحت هذه المراكز في نهاية الأيام مصدراً خطيراً استطاع أمراء الأتراك في العباسيين أن يحكموا به مقدرات الخلافة وأن يحيلوا الخليفة إلى شخص آلي يحكمون البلاد باسمه وليس له شيء فيما يحكمون. |
كما استطاع مماليك الأتراك في الدولة الأيوبية في مصر أن يستبدوا بقيادة الجند وأن يتفقوا على قتل مليكهم توران بن الصالح الأيوبي وأن يولوا الأمر جاريته شجرة الدر ثم يقصوها وينادوا بمملوك آخر هو ((عز الدين أيبك))
(1)
. |
في مكة: ونحن الآن بعد هذا العرض السريع عائدون إلى تعقيب الحوادث في مكة وتتبع أنبائها وكنا قد تركنا أميرها الحسن بن علي بن قتادة يتولى إمارتها بعد أن استخلصها من عامل الأيوبيين في اليمن. |
ولعلّه من إعادة القول أن نشير إلى أن نفوذ الأيوبيين في مصر والعباسيين في بغداد قد تقلص قبيل سقوط حكومتيهما وبعده وأن الحسن بعد أن اعتمد جهوده الخاصة في استيلائه على مكة بات يتمتع بحكم لا تشوبه شائبة ويدعو في الخطبة لنفسه وحده. |
جماز بن الحسن: ولم يدم أمر الحسن بن علي بن قتادة في مكة طويلاً فقد هاجمه في رمضان عام 651 ابن عمه جماز بن الحسن بن قتادة في عسكر كثير صحبة الركب الشامي فتغلب عليه وقتله واستولى على حكم مكة. |
وساعد جماز في هذه الحملة صاحب الشام الذي وعده أن يخطب باسمه في مكة وقد دعا جماز لصاحب الشام مدة قصيرة ثم دعا لصاحب مصر الأشرف حفيد الأيوبيين
(2)
. |
ومع هذا لم يبق في إمارتها إلاّ شهراً واحداً ذلك لأن راجح بن قتادة بطلنا القديم وحليف اليمن قبل الحسن المقتول هاجم مكة في جيش قوي لم يوضح المؤرخون هل ساعده به اليمنيون أصدقاؤه القدماء الذين كانوا سئموه أم استطاع أن يجمعه من مناصريه في البادية. ولكن الذي ثبت أنه ظفر بإجلاء جماز وأنه عاد إلى الحكم في ذي الحجة من السنة نفسها 651 واستمر بها إلى ربيع الأول سنة 652 وبذلك كانت آخر ولايته بمكة بعد أن تداول حكمها نحو ثماني مرات، ومنيت مكة في هذه الفترة بغلاء عظيم وعطش بيعت فيه ((شربة الماء)) بدرهم كما بيعت الشاة بأربعين درهماً. |
غانم بن راجح: وفي سنة 652 انتزع ابنه غانم منه إمارة مكة بعد أن تغلب عليه بدون قتال يذكر ويبدو أن راجحاً سئم النضال بعد أن غلبه ابنه وكان قد تقدمت به السن وطحنته الأهوال فاستكان في داره حتى وافاه الموت بعد سنتين من اعتزال الإمارة تقريباً
(3)
. |
ويصيب الدحلان في خلاصة الكلام راجحاً بن قتادة إلى قائمة الشجعان ويقول إنه كان من طوال الرجال إذا قام وصلت يداه إلى ركبتيه وأنه كان عظيم الشأن قوي الشكيمة. |
ولم يدم غانم طويلاً في حكمه بعد غدره بأبيه وانتزاع الإمارة منه، فقد ثار عليه بعد أشهر جماعة من بني عمومته آل قتادة وعلى رأسهم إدريس وابن عمه أبو نمي الأول
(4)
. |
إمارة أبي نمي الأول: وقد تغلب عليه الثائران فانتزعا منه الأمر في شوال من السنة نفسها عام 652 واضطلع الاثنان بالحكم في مكة مشتركين وبذلك عاد أبو نمي إلى الحكم بالشراكة مرة أخرى فقد شارك أباه الحسن فيما مر بنا وهو اليوم يشارك عمه إدريس واتصل الخبر بصاحب اليمن الملك المظفر عمر بن رسول وجاءته رسله بأن الأمر في مكة قد خرج من حليف اليمن راجح بن قتادة إلى ابنه ثم إلى الثائرين إدريس وأبي نمي فجهز جيشاً إلى مكة بقيادة ابن برطاس وقد انتهى الجيش إلى مكة والتحم في قتال شديد في قوز المكاسة
(5)
بأسفل مكة ثم دخلها واستولى عليها في ذي القعدة من السنة نفسها 652 وظل في إمارتها إلى المحرم من عام 653 حيث أعاد الكرَّة عليه الثائران إدريس وأبو نمي من آل قتادة فأجلياه عنها. |
وكان القتال شديداً في هذه المرة سفكت فيه الدماء بالحجر داخل المسجد الحرام وقد أسر ابن برطاس في هذه الموقعة ففدى نفسه بمال وقفل راجعاً إلى اليمن واستمر الشريكان على ولاية مكة ثم انفرد بها أبو نمي مستقلاً في عام 655. |
ويذكر الفاسي ما يدل على أن إدريس أحد الشريكين تغيب في زيارة أخيه راجح فاستقل أبو نمي بالأمر
(6)
. |
|