شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
منبر مكة بين العباسيين والفاطميين
ويبدو أن ثائر مكة جعفر بن محمد لم يلبث أن شعر بحاجته إلى مهادنة الفاطميين أصحاب الحكم الجديد في مصر ولعلّه كان أخشى ما يخشاه عدوان القرامطة الذين كانوا لا يزالون يعيثون فساداً حول القطيف والبحرين ويقطعون السبل على الحاج فرأى أن يدعو في منبر مكة للخليفة الفاطمي المعز ففعل ابتداء من عام 358 (1) .
ولم يكن اسم المعز غريباً يومها على مكة فقد ثبت أن له علاقة خاصة يرجع عهدها إلى قبل هذا التاريخ فقد أرسل وهو في المغرب قبل أن يحتل مصر رجالاً لتسوية بعض الخلافات التي بلغه أنها ناشبة في مكة بين بني الحسن وبني جعفر بن أبي طالب، وقد فعلوا ذلك وعقدوا بين الفريقين صلحاً في المسجد الحرام وأدوا في الوقت نفسه دية القتلى من بني الحسن مما حملوا من أموال المعز وذلك في سنة 348 (2) .
وما لبث الأشراف في مكة على إثر اتصالهم بالفاطميين أن أضافوا إلى الأذان عبارة ((حي على خير العمل)) وهو تقليد كان يتبعه الفاطميون وبذلك حذف اسم الخليفة العباسي من الخطبة في مكة (3) .
ولا نشك أن العباسيين ساءهم ذلك، فقد كان التنافس بينهم وبين الفاطميين في انتزاع زعامة الإسلام على أشده، كان العباسيون يشعرون أنهم خلفاء الإسلام ويأبى الفاطميون إلاّ أن ينكروا ذلك عليهم، ويرون أنهم أحق بالخلافة لانحدارهم من سلاسة العلويين وجهادهم في سبيل مبادئ آبائهم (4) .
ولقد كانت النظرية الشائعة في عهود الإسلام الماضية أن انضمام الحرمين شرط من شروط الخلافة وأن نفوذ الخلافة لا تكمل عناصره في نظر الأمم الإسلامية ما لم تؤيده خطبة الحرمين وتنطق داعية باسمه (5) لهذا اعتبر المعز الفاطمي تلاوة اسمه على منبر مكة تدعيماً لا بد منه لمركزه في الخلافة، إلاّ أن هذا التدعيم لم يدم أمره طويلاً في عهد صاحب الثورة في مكة جعفر بن محمد لأننا لا نلبث أن نجد العباسيين ينافسونهم عليها منافسة شديدة ونرى أمراء الحج العراقي يضغطون على صاحب مكة حتى يدعو لخليفة بغداد المطيع في عام 359 ويستطيع القرامطة أن يفعلوا ذلك فيضيفون اسمهم إلى جانب العباسيين في العام نفسه (6) .
ومن هذا يبدو أن منبر مكة كان يتأثر بأكثر من عامل واحد من عوامل الضغط التي كانت تحيط به وأن القوات المسيطرة في أفق الإسلام يومها من عباسية إلى فاطمية على قرمطية كانت تتجاذبه بمختلف الوسائل وأن ثائر مكة كان لا يستطيع بقوته المحدودة أن يدافع عن رأيه لهذا كان الظافر منهم بالتعاقب يقيم الخطبة لنفسه إلى أن تنتزعها منه قوة أخرى.
ويلوح لنا أن العباسيين استمرؤا طريقتهم في انتخاب أبي أحمد الموسوي والد الشريف الرضي ليمثلهم في الحج ويرأس ركب العراقيين (7) كما كانوا يفعلون في عهد الأخشيد ليستفيدوا من نسبته إلى العلويين وعلاقته بأسر الأشراف، وأعتقد أنهم نجحوا في ذلك إلى حد واستطاعوا أن يبلغوا مناهم من الدعاء لهم في مكة في أكثر من سنة من سني جعفر بن محمد وعندما نقول أكثر من سنة نعني بهذا أننا لا نستطيع التحديد بوجه خاص فأقوال المؤرخين متضاربة في شأن الأسماء التي كانت تظفر بالدعاء على منبر مكة والسنين التي يتم فيها ذلك الدعاء.
بل إن التضارب يتسع إلى أكثر من هذا، فبينما تذكر بعض المصادر مثلاً أن الحج العراقي منع في بعض السنين تذكر مصادر أخرى أن منبر مكة كان يدعو في تلك السنوات نفسها لخليفة بغداد، فيعز على مثلي أن يوفق بين منع حج بغداد والدعاء لصاحب بغداد وهو يعلم أن مكة لا تدعو لبغداد في هذه الفترة إلاّ إذا قام على رأسها أمير الحج العراقي يملي عليها بقوته أو ماله.
وبحسبنا أن نعرف أن جماع ما يمكن استنتاجه من أقوال المؤرخين في هذه الفترة أن جعفراً الثائر لم يستطع أن يقصر دعاءه للفاطميين وأنه قضى في سني حكمه نحو عشرين سنة تتجاذبه قوى فتفرض عليه الدعاء لها.
ويجب ألا ننسى إلى جانب هذا أن التجاذب نفعه إلى حد كبير بقدر ما أساءه، فقد كان ظفر الظافرين من القوات الإسلامية متوجهاً كما رأينا إلى ناحية واحدة هي ربح الدعاء فوق المنابر وبذلك ظلت مقدرات مكة وشؤون حكمها في نجوة -كما نعتقد- من التجاذب وظل جعفر يتمتع مدى حكمه باستقلاله بالحكم.
وقد نرى في بعض الأحاديث أن العباسيين مثلاً أو الفاطميين يملون إرادتهم في شيء معين فيمضيه لهم جعفر ولكن ذلك لا يعدو أن يكون إملاء مؤقتاً يزول بزوال وقته ويبقى بعد ذلك أمر مكة مستقلاً به صاحب مكة جعفر.
ويبدو أن مكة استفادت من هذا التجاذب إلى حد لا بأس به كما استفاد صاحبها لأن ملوك الإسلام في هذه الفترة كانوا يتنافسون في البر بها وكان إذا حج أحدهم أو ذووهم أمعن في الظهور بما يرفع من قدره وغالى في أعمال الخير مغالاة يستفيد منها الأهالي في مكة فوائد لا حدَّ لها.
حجت في سنة 366 جميلة بنت ناصر الدولة في بغداد في قافلة تضم 400 كجاوة لا يعلم أحد في أيهن كانت لما عليهن من الزينة وكان معها عشرة آلاف جمل عليها المؤونة والصدقات وقد زوجت كل علوي وعلوية (8) وهي لا تزوج العلويين إلاّ لغرض خاص يرمي من ورائه إلى التودد إلى أشراف مكة وأمرائها. وقال المؤرخون عنها إنها من أزهد الناس وأعبدهم وأجراهم دمعة وكانت تقوم نافلة الليل وتسمع العظات ونحن نقول ليت زهدها أرشدها إلى الاقتصار من عدد ((الكجاوات)) وزينتها لتضيف أثمانها إلى أعمال الخير التي قامت بها، وليت أعمال الخير التي قامت بها في مجموعها كانت على غير هذه الوتيرة التي ألفوها في ترويج الصدقات. ليتها تعلمت من زبيدة زوج الرشيد كيف يكون البر في مشاريع خالدة تبقى بقاء الدهر، إنها لو فعلت وأمثالها من أصحاب البر ذلك لتوفر للحرمين على مر الدهور مشاريع لا نهاية لحدها ولاستطاعوا بذلك أن يهيئوا هذه البلاد لحياة غير الحياة التي ظلت تعيشها تتقبل صدقاتهم وبرهم، اللَّهم إنا نحتكم إلى عدلك فيما علمت من صدقاتهم ونسألك الفصل فيما أضاعت الغفلة أو بدد الغرض من فرص على بلدك الأمين وأكثر بلاد المسلمين.
المكوس: وفي هذا العهد ابتدع جعفر وضع المكوس على الحاج (9) ولعلّه شعر بحاجة البلاد إلى ما تنفقه فلجأ إلى هذه البدعة ويبدو أن الفاطميين لم يعارضوه وأن العباسيين لم يمنعوه منها.
عيسى بن جعفر: وتولى أمر مكة بعد جعفر ابنه حوالي عام 380 وفي عهده بدا للعزيز الفاطمي في مصر أن يُنيب من يمثل الفاطميين في مكة ليضمن لهم استمرار الدعاء في الخطبة فأرسل أحد العلويين إليها في جيش عظيم فدافع عيسى عن مكة وأبى عليه دخولها فظل يحاصرها مدة طويلة، وقد عانت مكة من جراء الحصار عناءً شديداً واشتد الغلاء فيها.
ويبدو أن عيسى قبل تفادياً للعواقب أن يدعو للفاطميين (10) .
أبو الفتوح: وعلى أثر وفاة عيسى في سنة 384 تولاها أخوه أبو الفتوح (11) وكان صادق العزيمة طموحاً اشتدت شكيمته على العابثين. وعندما رأى بعض قطاع الطرق من الأعراب يفرون من سطوته إلى رابغ أو إلى المدينة ليحتموا بحكامها من أشراف آل المهنا خف إلى رابغ فاحتلها ثم إلى المدينة فقضى على حكم آل المهنا فيها وأضافها إلى حكمه في مكة (12) .
ونقل الشيخ عبد الله غازي (13) رواية غريبة تتلخص في أن الحاكم الفاطمي في مصر طلب إلى أبي الفتوح أن يحتل المدينة وينقل جثمان النبي صلى الله عليه وسلم منها إلى مصر فأطاعه، وأن أهل المدينة بعد احتلالها احتفلوا به قرأ قارئهم أمامه قوله تعالى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ.. (التوبة: 13) إلى آخر الآية فشعر باستحالة الأمر فعدل عنه ولم أعثر على ما يؤيد هذه الرواية، ويكفي للتدليل على غرابتها أن الفاسي وابن ظهيرة والدحلان وهم أهم من كتب في تاريخ مكة بعد الأزرقي لم ينقلوا هذه الرواية (14) .
ويشير الفاسي إلى أن استيلاء أبي الفتوح على المدينة كان بسبب ما بلغه من منع الدعاء للفاطميين (15) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :815  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج