الإصلاحات في المسجد |
وعنى خلفاء العهد العباسي الثاني وأمراؤهم من الأتراك بالمسجد الحرام فأمر المتوكل بزيادة ضبط الحجر ((مقام إبراهيم)) وأضاف إليه ثمانية آلاف مثقال من الذهب و 70 ألف درهم من الفضة لشد ما تصدع فيه، ولما استعان عامل العباسيين في مكة جعفر بن الفضل بقيمة ذلك الذهب بعد قلعه وضربه دنانير لصرفها في ثورة إسماعيل بن يوسف العلوي سنة 251 التي قدمنا عنها عاد علي بن الحسين العباسي عامل مكة لتجديده فجعل له طوقين من ذهب فيهما 1992 مثقالاً وطوقاً من فضة وأذاب العقاقير بالزئبق فشد بذلك بين أوصاله وكانت قد تفرقت إلى سبع قطع
(1)
. |
ولما حج المتوكل في خلافته أنشأ منبراً عظيماً وجعله مكان المنبر القديم وأقام عامل المعتز حول المطاف عشرة أساطين من الخشب جعل بينها حبالاً وأناط بالحبال ثماني ثريات مقسمة على جوانب الكعبة في كل جهة اثنتان ليستصبح الطائفون كما اتخذ حجز النساء خلف أعمدة ربط بينها بالحبال
(2)
. |
وأهدى أحمد بن طريف مولى العباس بن محمد الهاشمي في عام 241 رخامتين خضراوين فوضعت إحداهما تحت الميزاب ووضعت الثانية على سطح جدار الحجر ((بالكسر)) مما يلي الميزاب ثم نقلت وأوصلت بالرخامة الأولى تحت الميزاب
(3)
وربما أعتقد بعضهم أن إسماعيل عليه السلام مدفون تحت الرخامتين ولم أجد لهذا شيئاً يؤيده
(4)
. |
وأصيب بعض جدار المسجد بوهن في عهد المعتمد بالله لأن داراً بجوار باب إبراهيم سقطت على سطح المسجد فانكسرت أخشابه وانهدمت اثنتان من أسطواناته فقضت على نحو عشر أنفس فصدر أمر الموفق أخي المعتمد بإصلاح ذلك فقام بالأمر عاملهم على مكة هارون بن محمد بن إسحق وقد تم ذلك سنة 272
(5)
. |
زيادة دار الندوة: وظل المسجد بعد أعمال المهدي على حدوده التي وصفنا في العهد العباسي الأول وهو باقٍ عليه إلى اليوم
(6)
إلاّ ما كان من أمر الزيادتين اللتين زيدتا في هذا العهد وأولاهما زيادة دار الندوة في عهد المعتضد. |
وكان قد تقدم بنا في العهد الأموي أن بعض الخلفاء من بني أمية أدخلوا أجزاء يسيرة منها في المسجد وكذلك فعل المنصور في العهد العباسي الأول وبذلك بقيت بقية الدار ينزل بها خلفاء بني أمية ثم خلفاء بني العباس ثم ما لبثت أن خربت وتهدمت فجعلوا يكرون مقاصيرها الخاصة بالنساء على الغرباء والمجاورين ويتخذون مقاصير الرجال لدواب ولاة مكة ثم اتخذها عبيد العمال من السودان نُزلاً لهم فكانوا يؤذون الجيران ثم ازداد خرابها فجعلوا يلقون فيها القمائم فإذا جاء المطر سالت الأوساخ منها فدخلت المسجد من بابها الشارع في بطن المسجد الحرام فكتب عامل البريد على مكة وهو من أهلها وكان يسكن بجوارها، كتب إلى بغداد يفصل أحوالها وما يترتب على ذلك من أضرار ويبدي رأيه في بنائها مسجداً يتصل بأبواب المسجد الكبير
(7)
. |
ويختلف المؤرخون في موقع دار الندوة فيجعلها بعضهم مكان المقام الحنفي ويؤخِرها بعضهم إلى مؤخرته أو على الرواق الذي يقع خلف ذلك والذي يبدو من متابعة التاريخ أن مساحة دار الندوة كانت متسعة تبدأ من نحو منتصف الأروقة خلف مقام الحنفي إلى نهاية باب الزيادة وباب القطبي بما يشمل ذلك من الحصوة الصغيرة وما حولها ويؤيد ذلك أن بعض خلفاء الأمويين أدخلوا أجزاءها في المسجد ثم أدخل المنصور بعدهم جزءًا آخر فاستقام ضلع المسجد ثم جاء المهدي وكان الضلع مستقيماً فعمل على استقامة غيره فيظهر في هذا أن بعض الرواق المستقيم خلف المقام الحنفي هو من دار الندوة وهو الجزء الذي ضم إلى المسجد قبل المهدي وأن بقية دار الندوة تنتهي إلى باب الزيادة وباب القطبي مع مشتملات ذلك من الحصوة وما حولها من أروقة. |
وهكذا أقيمت دار الندوة أو أكثريته الباقية على الأصح مسجداً صغيراً وجعلت أبوابه تفتح على المسجد الكبير. |
وكان عامل البريد الذي رأى هذا الرأي أضاف إليه غيره فذكر في كتابه إلى أمير المؤمنين أن مجرى السيل في شرقي المسجد ارتفع مستواه بمرور الزمن فصارت مياه السيل تطفح على المسجد ورفع سدنة الكعبة كذلك كتباً أخرى يشيرون فيها بتقوية بعض جدار الكعبة وتجديد عضادتي بابها وصفائحه وبلاط المطاف فأمر الخليفة بإرسال الأموال والمهندسين في عام 281هـ فجرى العمل في بناء دار الندوة وبقية الإصلاحات. |
وفي سنة 306 أعيد إصلاح مسجد دار الندوة ووصل بالمسجد الحرام حتى أصبح جزءاً منه كما هو اليوم
(8)
. |
زيادة باب إبراهيم: وفي السنة نفسها أمر الخليفة المقتدر بالاستفادة من ساحة كانت بين دارين لزبيدة هي مكان دار إبراهيم
(9)
اليوم فهدمت وألحقت بالمسجد
(10)
ولا يزال مكان الزيادة ظاهراً إلى اليوم عند حدود أروقة المسجد، وبهذه الزيادة انتهى ما بلغت إليه مساحة المسجد إلى يومنا هذا، وكل ما وقع بعد ذلك فهو ترميم أو تحسين أو إنشاء لا يزيد عن حدود هذا النطاق، وتنافس خلفاء هذا العهد من بني العباس في العناية بكسوة الكعبة، فيذكر صاحب العقد الفريد أنها كانت تكسى في هذا العهد سنوياً يوم النحر بالديباج الأحمر الخراساني، وفيه مكتوب حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فإذا ثقلت عليه الكساوي جردت، وأخذ ذلك بنو شيبة قال: وإذا وافى وقت الموسم تفرج الكسوة عن الجزء السفلي من الكعبة، ليستر مكانه بالقباطي من الديباج الأبيض وتبقى كذلك ما دام الناس محرمين، وذلك شبيه لحالة اليوم عندما تحرم في أيام الحج أقول: وهي عادة فيها من الإسراف في المال ما كانت البلاد في حاجة إلى إنفاقه في مرافقها الخاصة براحة الحجاج والسكان، ولكننا نعني ببعض المظاهر ونغفل الشؤون الحيوية في مرافقنا. |
بعض أوصاف المسجد في هذا العهد: وقد وصف المسجد في هذا العهد صاحب العقد الفريد، فذكر أن طوله 404 وعرضه 304 وله ثلاث بلاطات ((أروقة)) محدقة به، وهي داخلة في الذرع وفوقها سماوتها مذهبة وحافاتها على عمد جملتها 434 عموداً كل عمود منها عشرة أذرع والمذهبة من رؤوس العمد 320 رأساً، وسور المسجد كله من داخله مزخرف بالفسيفساء، وأبوابه على عمد من رخام ما بين الأربعة والثلاثة إلى الاثنين وهي 24 باباً لا غلق عليها يصعد إليها في عدة درجات
(11)
. |
ثم تحدث عن بئر زمزم، وقال إن سقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان تحت كل ركن منها عمودان، وقد سد بين كل ركنين بشرحب خشب وبشرقي زمزم بيت مقدر مقفل عليه
(12)
. |
وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء وفي كل وجه منه باب
(13)
. |
ثم قال وحمام المسجد كثير أنيس ثم قال إن الواقف على درج المروة يرى ميزاب البيت وما اتصل به لأنه قد هدم من أعلى القصور بينها وبين المسجد. |
ثم يقول وإذا هبط الساعي من الصفا يريد المروة سلك الشارع، وهو بطن الوادي، عن يمينه القصور وعن يساره المسجد
(14)
وكأنه يقول إن سور المسجد لا تغص به البيوت. |
|