شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القرامطة في مكة
عرف القارئ مما أسلفناه في فصل سابق مقدار الوهن الذي دب إلى مركز العباسيين في عصرهم الثاني كما عرف مبلغ الضعف الذي مني به خلفاؤهم وأن مواليهم من الأتراك كانوا يحكمون الدنيا بأسمائهم ونريد أن نقول بعد هذا أن النتائج السيئة لم تقتصر على ما أسلفنا بل تعدته إلى تغذية كثير من الحركات السياسية والدينية فقد كان الطامحون إلى مراميهم البعيدة في بلاد العباسيين يجدون من عجز الدولة ما يشجعهم على الثورات والفتن ويهمنا الآن من هذه الحركات قصة الثورات الدينية التي اضطلعت بها فرق من الشيعة والتي انتشرت بأسبابها في جهات كثيرة من بلاد العباسيين.
فهناك ثورات للزيدية وأخرى للإمامة الموسوية وغيرها للعلوية والإمامة الإسماعيلية والإمامة الإثنا عشرية وهناك فتن القرامطة. قرامطة العراق والشام، وقرامطة البحرين والقطيف، وقرامطة اليمن وهناك الكتاميون في المغرب والفاطميون في مصر.
كل هؤلاء تشيعوا لآل علي بأساليبهم التي كانت تختلف باختلاف أعراقهم (1) ، وكل هؤلاء شغلوا العباسيين في أوقات طويلة كان العباسيون أحوج إليها من بناء تاريخهم، وكثير من هؤلاء أقاموا لأنفسهم على حساب ضعف العباسيين بلاداً مستقلة وأنشأ بعضهم دولاً مضى صيتها في التاريخ إلى حد بعيد كان من أبرزهم في ذلك الفاطميون في مصر.
وبحثنا في هذا الفصل يتناول القرامطة لصلة القرامطة في عام 317 وعلاقتهم بما كنا في سياقه من حوادث مكة إلى العام المذكور.
ولعلّ القارئ يذكر ما قدمناه في فصل سابق عن موقعة النفس الزكية في مكة سنة 145 وما ذكرنا بعدها عن مقتلة الشهداء في وادي فخ عام 169 وأننا قلنا في ما قلناه أن اثنين من العلويين فرا من الموقعة، وأن أحدهما وهو إدريس استطاع أن يصل إلى المغرب الأقصى وأن يؤسس فيه دولة الأدارسة (2) ونضيف هنا أن هؤلاء الهاربين استطاعوا بما ملكوا من نفوذ أن يساعدوا أنصارهم من الشيعة على نشر دعوتهم في الخفاء في بلاد متعددة من ممالك العباسيين.
ومن أشهر أصحاب هذه الدعوة ميمون بن القداح الذي تصدى لنشرها في بعض بلاد الشام، وقالوا إنه وضع دعامة المذهب الإسماعيلي واتهمه البعض أنه كان إلى جانب شيعته يميل إلى الشعوبية وإعادة النفوذ الفارسي وأنه مهّد بذلك لابنه عبد الله بن ميمون (3) .
ويذكر بعضهم أن عبد الله بن ميمون كان عالماً بجميع الشرائع والسنن كما يجعله رابع أربعة صنفوا رسائل إخوان الصفا المعروفة في التاريخ الإسلامي (4) ويقول آخرون إنه اعتنق مذهب الشيعة ليخدم أغراضه في الدعوة إلى الفرس، وأرسل وهو في الأهواز أحد دعاته إلى سواد الكوفة فلقي حمدان بن الأشعث المعروف بقرمط فدخل في دعوة ابن ميمون وسعى إلى نشرها، ولم يلبث أن زاد اتباع قرمط فأنشأ لهم داراً للهجرة وأمرهم باقتناء الأسلحة، وقد امتد نشاطهم في شمالي العراق وبعض بادية الشام وسمي هذا الفريق منهم بقرامطة العراق والشام (5) .
وانتقلت الدعوة إلى البحرين والقطيف على يد الحسين بن بهرام فاستفحل أمرها وقويت شوكتها، وكان من قوادها أبو سعيد الذي أقلقت فتوحاته العباسيين في عهد المعتضد ثم ابنه أبو طاهر القرمطي الذي وصفه المؤرخون بالطغيان وذكروا أنه انتهك حرمات الله ونهب قوافل الحجاج (6) .
وقد سار أبو طاهر بجيشه إلى مكة لانتزاعها من عامل العباسيين فانتهى إليها في 7 ذي الحجة من عام 317 فخرج إليه أمير مكة يومها ابن محارب في جماعة من الأشراف يسألونه أموالهم فلم يشفعهم فقاتلوه فهزمهم ووضع سيفه في الطائفين والمصلين والمتفرقين في مكة وشعابها وصاح به الناس أتقتل جيران الله؟ فقال: ليس بجار من خالف أوامر الله، وظل كذلك حتى قتل ما يربو على ثلاثين ألفاً دفن كثيراً منهم في بئر زمزم كما دفن بعضهم في المسجد الحرام بغير غسل ولا تكفين ولا صلاة، ونهب جيشه أموال الحجاج وأهل مكة (7) وكان ممن قتل بمكة أميرها ابن محارب (8) والحافظ أبو الفضل محمد بن الحسن الجارودي أخذته السيوف وهو متعلق بباب الكعبة وقتل إمام الفقهاء الحنفية أبو سعيد البردعي وكثير من العلماء الصوفية وممن هرب قاضيها يومئذ يحيى القرشي إلى وادي رهجان (9) وقد نهب القرامطة داره وفيها ما قيمته مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وشمل النهب أكثر البيوت حتى أصبح أهل مكة يستعطون الناس.
وركض أبو طاهر وهو سكران شاهراً سيفه راكباً فرسه ودخل المطاف فبالت فرسه وراثت وصعد إلى باب الكعبة وهو يقول:
أنا باللَّه وباللَّه أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وقد أقام بمكة أحد عشر يوماً.
وفي 14 ذي الحجة قلع الحجر الأسود من مكانه وذهب به إلى بلاده هجر (10) وبقي موضعه خالياً يضع فيه الناس أيديهم للتبرك نحو اثنين وعشرين سنة ثم أعاده القرامطة بعد ذلك قائلين أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئة الله (11) ، وقد حاول أحد خلفاء الفاطميين في المغرب إغراءهم بالمال ليعيدوا الحجر إلى مكة فعرض عليهم خمسين ألف ذهب فأبوا وبذل لهم مدبر الخلافة في بغداد 50 ألف دينار فأبوا وقالوا إنما أخذناه بأمر ولا نرده إلاّ بأمر (12) .
ويستوقفني في هذا السياق ركوض أبي طاهر بفرسه إلى داخل المطاف وترك الفرس تبول وتروث وهو شاهر سيفه صائحاً:
أنا باللَّه وباللَّه أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
كما يستوقفني إعادتهم الحجر الأسود إلى مكانه بعد المدة التي غيبوه فيها وقولهم أخذناه بأمر ولا نرده إلاّ بأمر، وأتمنى لو أستطيع التوفيق بين هذا الكفر الذي يتجلى في تلويث المطاف وذلك الإيمان الذي يعلنونه وهم يردون الحجر بأمر الله بعد أن أخذوه بقدرة الله كما يقولون.
يذكر صاحب الإسلام السياسي أنه نقل عن كتاب مخطوط بدار الكتب المصرية للنويري ولم يذكر اسمه (13) أن حمدان قرمط فرض على كل رجل وامرأة درهماً سماه الفطرة وعلى كل بالغ ديناراً سماه الهجرة وأنه استنتج هذا من قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103) ثم فرض خمس ما يملكه أتباعه معللاً ذلك بقوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (الأنفال: 41) وينقل صاحب مرآة الحرمين أن صلاتهم أربع ركعات اثنتان منها قبل طلوع الشمس واثنتان قبل غروبها وأنهم يقرون بالأنبياء ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم ابن الحنفية بعده وأن القبلة إلى بيت المقدس وأن يصام يومان في السنة وأن النبيذ حرام والخمر حلال ولا غسل من جنابة ولكن الوضوء كوضوء الصلاة.
ثم يذكر عن قرامطة اليمن أن خطيبهم كان ينشد على المنبر بصنعاء قوله:
خذي الدف يا هذه واضربي
وغني هزاريك (14) ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
أحل البنات مع الأمهات
وحط الصيام ولم يتعب
إلى آخر ما جاء في القصيدة من فحش وفجور لا يتفق والمبادئ التي قيل إن أصحابها يستنتجون بعض أحكامهم فيها من القرآن بمثل ما استنتج القرامطة من بعض ما أسلفناه.
وما لبث أبو طاهر القرمطي أن كتب إلى الخليفة الفاطمي في المغرب بما أحدث في المسجد الحرام فردّ عليه يعنفه على ما أحدث (15) وفي هذا ما يدلنا على صلة القرامطة بشيعة الفاطميين ويفسر لنا علاقتهم المذهبية بهم.
وظل سبيل الحج بعد ذلك مقطوعاً بتأثير القرامطة حتى كتب أبو علي عمر بن يحيى نقيب العلويين في الكوفة سنة 327 إلى أبي طاهر أن يطلق السبيل للحجاج على مكس يأخذه منهم فامتثل أبو طاهر وجعل يأخذ المكس من الحجاج في طريقهم إلى مكة ولا أدري كيف أجاز لنفسه المكس وهو من أصحاب الغلو في الدين، وقد عانت مكة من جرّاء هذا كثيراً من الضيق واستبد الفقر بأكثر الأهالي فيها سنوات طويلة.
وفي كتابة نقيب العلويين إليه ما يفسر معنى ما نذهب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :454  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج