شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الناحية الفنية
وإذا تركنا هذا المجال في مجامع الفقهاء والعلماء منتقلين إلى أوساط المتظرفين والماجنين واللاعبين وجدنا مكة تعج بترفهم ومجالس الأنس كما كان الشأن في العهد الأموي، كما يرى أن مدى هذا التظرف والفن لم يدم طويلاً في العصر الذي ندرسه لأن الغنى الذي كان يتمتع به الحجازيون طيلة العهد الأموي وصدراً من العهد العباسي الأول بدأت موارده تنضب بفعل التحول السياسي الذي اقتضته ظروف الحياة في الحجاز. فقد كانت سياسة الأمويين كما علمنا فيما سلف تقتضيهم أن يغدقوا على الحجازيين الأموال الطائلة والهبات العظيمة ليشغلوهم بها عن التطلع إلى الخلافة فأثرت مكة من هذه الهبات وأثرت المدينة، وانغمس المترفون منهم فيما انغمسوا، فلما جاء العباسيون لم يكن لهم هَمٌّ إلاّ العناية بالفرس مؤسسي دولتهم فتحولت الهبات الحكومية إلى القادة والعظماء من مدن العراق أو خراسان وبذلك ضعف شأن الحجاز بالتدريج وبدأ الفقر يأخذ طريقه إلى بيوتاته المترفة، ولم يبق لهم من تلك الهبات الطائلة إلاّ نفحات الحجاج من الخلفاء أو العظماء وبعض الصلات اليسيرة، يضاف إلى هذا أن الحجازيين لم تتحسن علاقاتهم جدياً مع العباسيين. فقد كانوا -كما مر بنا- مصدر تعب طويل لاقى العباسيون فيه كثيراً من العناء وبذلوا الكثير في سبيل إخماد ثوراتهم، ويصح لنا أن نضيف إلى هذه الثورات خروج البدو في خلافة الواثق وإعلانهم الفساد والأذى ولا يكفينا أن نعتذر لهذا الفساد بفقر البادية أو جوعها لأن الحاكمين بأمرهم من بني العباس لم يكونوا بالذين تعنيهم فلسفة الأخلاقيين بقدر ما يعنيهم تدعيم دولتهم وتوطيد أركانها. فالخارجون بأي الأسباب ومن أي الألوان لا يستحقون إلاّ الحرمان والموت.
كل هذه الأسباب مجتمعة تركت أثرها في الهبوط بمستوى الثروات في الحجاز، وساعد الإسراف في الترف، والبذل في تجنيد الثائرين، وجدب البلاد الطبيعي على ضعف الحياة فيه ثم ما لبثت أن جرته إلى الفقر وأدت به إلى موارد الحاجة.
ولعلّ البقية الباقية من بيوت الترف وأصحاب الفنون بالفاقة التي انقلب إليها الحجاز فتسللت في أرض الله بحثاً وراء المتعة وسعياً إلى التكسب. فقد حدثنا صاحب الأغاني عن مشاهير كانوا يكتسبون بفنونهم في العراق منهم يحيى المكي (1) وابن جامع (2) ويزيد حوراء (3) ودنانير (4) ، وجميعهم مكيّون هجروا بلادهم إلى العراق ونقلوا إليها معهم فنونهم ويذكر صاحب الأغاني أن إبراهيم الموصلي (5) وهو من أشهر المغنين في العهد العباسي أخذ فنه عن رجل من أهل الحجاز وفي هذا ما يدل على مبلغ ما استفاده العراق من هجرة الحجازيين كما يدل على أن الهجرة بالفن الغنائي كانت أمراً واقعياً دعت إليها حاجة المغنين للتكسب.
ويلوح أن هبوط مستوى الثروات في مكة في هذا العصر وارتحال أصحاب الفن من المغنين واللاعبين والمترفين ترك أثره في الحياة العامة. فقد انكفأ الأهالي فيها على المنهل الوحيد الذي بقي لهم بين حلقات العلماء ومجالسهم فهيأ ذلك إلى اتجاه تعلموا فيه الزهد والتقشف والرضا والرغبة في ثواب التعلم والتفقه فكانت الحركة العلمية التي أشرنا إليها في صدر بحثنا والتي رأينا أجلّة العلماء بسببها يبرزون في التفسير والحديث والإفتاء.
وتبع هذا أن اشتهرت مكة في هذا العصر بكثير من عبادها وزهادها وبدأ المهاجرون من هذه الطبقة يجدون في مكة مأوى يفرون إليه من زيف الحياة في الأمصار متفيئين بظل الكعبة منقطعين للعبادة حولها وتبع ازدياد المنقطعين وأكثرهم من طبقات فقيرة أن احتشد الفقر باحتشاد هذا الصنف من الناس وبدأ المحسنون يبنون لهم التكايا ويرتبون لهم الصدقات، وبذلك خطت مكة خطوتها الأولى في هذا العصر نحو العيش في ظل التكايا وقد ظهر أثر ذلك واضحاً في العهد العباسي الثاني مما سيأتي بيانه في فصول آتية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :472  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج