الناحية الفنية |
أما القسم الآخر الذي أنتجته النظرة العابثة في الحياة فقد أسلم أصحابه إلى كثير من الترف والفنون واللعب. |
شاع التطرف الأدبي بين هؤلاء شيوعاً قد لا نجد له نظيراً في تاريخ مكة فأنتج لنا عمر بن أبي ربيعة وعبد الله بن قيس
(1)
والعرجي والحارث بن خالد المخزومي وشعراء غيرهم لم يبلغوا شأوهم ولكنهم كانوا على العموم يمثلون ناحية الترف والمجون في عصرهم تمثيلاً صادقاً. |
وتأنّق المترفات فبدأن يستمرئن الأدب ويتلذذن بسماعه وتعرض الأرستقراطيات منهن للشعراء يستزدنهم ويشحذن خيالهم وترقق بعضهم فاستسغن الاجتماعات البريئة يشجيهن فيها الشاعر برقيق ما ينشد: |
قالت لو أن أبا الخطاب وافقنا |
اليوم نلهو وننشد فيه أشعارا |
|
ومضى بهن التظرف إلى الاستئناس بالسمر يلهون في غفلة عن الناس ثم يعفين آثاره بأكسيتهن الجميلة من الخز. |
سمرن يقلن ألا ليتنا |
نرى ليلنا دائماً أشهرا |
ويغفل ذا الناس عن لهونا |
ونسمره كله مقمرا |
غفلن عن الليل حتى بدت |
تباشير من واضح أشقرا |
وقمن يعفين آثارهن |
بأكسية الخز أن تقفرا |
وقمن يقلن لو أن النهار |
مدّ له الليل فاستأخرا |
|
لا أعتقد أنهن كن فاجرات في سمرهن أو فاسدات في تعرضهن للشعراء ولكنهن كن ساخرات بالحياة عابثات بها وكن مرحات يستذوقن الجمال ويستمرئن الهوى في حدوده التي رسمتها بيئة عصرهن
(2)
. |
مضت لوثة هذا التظرف حتى اتصلت بمواقف الحج من المشاعر فنحن نرى المسعودي ينقل إلينا ما يقوله أحد الحجاج من الشعراء: |
يا حبذا الموسم من موقف |
وحبذا الكعبة من مسجد |
وحبذا اللاتي يزاحمننا |
عند استلام الحجر الأسود |
|
فيغضب والي مكة خالد بن عبد الله القسري ويأمر بمنع اختلاط النساء بالرجال في المطاف، ونسمع المغنين يرددون لنا بيت العرجي المشهور: |
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة |
ولكن ليقتلن البريء المغفلا |
|
وتضيف الروايات التاريخية إلى هذا أن بعض فقهاء الحجاز أدركتهم هذه اللوثة من التظرف وتقول أنهم كانوا أرقّ شعوراً وأكثر تسامحاً من غيرهم وأن عبيد الله بن عمر العمري يقول: خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام فيه رفث فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسناً، ثم قالت: تأمل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله: |
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة |
ولكن ليقتلن البريء المغفلا |
|
قال: فقلت أسأل الله ألاّ يعذب هذا الوجه بالنار، وقد بلغ ذلك سعيد بن المسيِّب فقال: أما والله لو كان من فقهاء أهل العراق لقال لها: اغربي قبحك الله ولكنه ظرف عباد الحجاز. |
وكان كثير من النساء يخرجن سافرات الوجوه
(3)
ويطفن بالبيت في غير نقاب وقد أورد الأزرقي في أخبار مكة ما يشير إلى ذلك ثم قال في حديث عن جدّه: إن عطاء كان يكره أن تطوف المرأة متنقبة وكذلك كان يرى ابن أبي مخارق ثم قال: وقد ظل عطاء على رأيه حتى ثبت له أن عائشة كانت تطوف متنقبة فأرخص في ذلك. |
وتسامح المكيون في سماع الغناء حتى اقتنوا له الجواري من طبقات ممتازة فأدبوهن بآداب العربية وعلموهن صناعة الشعر وتركوهن يغنينه بما عرفن في بلادهن مصبوغاً بصبغة الحجاز، ويروي أبو الفرج أن أول من غنى بمكة من أهلها سعيد بن مسجح سمع غناء الفرس وألحان الروم وتعلّم الضرب ثم ألقى ما استقبحه من النبرات خارجة عن غناء العرب وغنى على مذهب يجمع بين ما استحسنه من الأنغام وتبعه الناس فيما بعد
(4)
. |
واشتركت المدينة في هذه اللوثة وشاع أمر الغناء بينها وبين مكة ولكن مكة سبقت إلى الشعر الغنائي بما شاع فيها من شعر ابن أبي ربيعة وأصحابه، واشتهر بين المدينتين من الموالي المغنِّين والمغنيات جميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومعبد، ومالك، وابن عائشة، ونافع، وعزة الميلاء، وحبابة وسلامة القس
(5)
وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وتجد أخبار ذلك مفصلة في كتاب الأغاني. |
|
(من آلات الطرب التي كانت تستعمل في عصر بني أمية)
|
|
وشاع التندر والفكاهة في مكة كما شاعت خفة الروح وكثرت التائهات بحسنهن والمعتزات بجمالهن القاتل: |
نحن أهل الخيف من أهل منى |
ما لمقتول قتلناه قود |
وأغرقن في حلل من الخز والديباج |
وزينتهن من الياقوت والزبرجد |
يرفلن في مطرفات السوس آونة |
وفي العقيق من الديباج والقصب |
ترى عليهن حلى الدر متسقاً |
مع الزبرجد والياقوت كالشهب |
|
وكلف هؤلاء بمنتزهاتهم في أطراف مكة والزاهر وفي عقيق المدينة وضواحي الطائف كما يذكر صاحب الأغاني فكانوا يمتطون الدواب الفارهة في أعناقها القلائد الذهبية أو يمشون في أقبيتهم المطرزة بالوشي تحت الثياب الرقيقة المصبغة من الكتان أو القز بعضها أطول من بعض كأنها المدارج تقوم قياماً من شدة الصقال كما كلف أغنياؤهم بتشييد القصور في ضواحي المدن ومن أشهرها قصور العقيق بضاحية المدينة. |
وشاعت بين المترفين في هذا العهد ألوان من الطعام الشامي والفارسي كما شاع بينهم اتخاذ الكراسي حول الموائد واستعمال الملاعق من الخشب والمناشف إلى جانب السكاكين التي كانوا يستعملونها من عهود سابقة وشرعت بيوتهم تأخذ أشكالاً جديدة من هندسة البناء وترتفع طبقاتها في الهواء بالحجارة والرخام
(6)
مرفوعة على الأعمدة والأقواس مزينة بالفسيفساء في أبهائها ولا تزال آثار ذلك ماثلاً إلى اليوم في أطلال قصر ابن العاص في ضواحي المدينة. |
وبلغ من انتشار الترف أن أصابت عدواه كما قلنا بعض المحتشمين فكلفوا بالتنزه والمطاولة في البنيان وأباح بعضهم لنفسه حضور مجالس الأغاني والاستماع إلى رقيق الشعر والترنم به ولم تتحرج سكينة بنت الحسين من الحفاوة بشعر عمر بن أبي ربيعة فقد كان يصادفها في الطريق ويأخذ بلجام بغلتها لينشدها شعره فتستمع إلى نشيده وتناقش بعض معانيه. |
وشاع في أكثر الأوساط لهذا العهد لبس العباءة من وبر الجمل فوق القباء الطويل الذي يتدلى إلى العقب مشقوقاً من وسطه وكان بعضهم يلبس العمامة ويختلف حجمها حسب السن والمركز ويلف بعضهم الطيلسان فوق العمامة وهو عبارة عن منديل كبير يتدلى إلى الكتفين. وتلبس المرأة سروالاً فضفاضاً وقميصاً مشوقاً عند الرقبة وتضيف إليه رداء قصيراً ضيقاً في فصل البرد وتشتمل في خروجها بملاءة طويلة وتلف رأسها بمنديل وكان بعضهن سافرات الوجوه تضرب الخلاخل في أرجلهن. |
|
صورة تقريبية تمثل الخلاخل في أرجل المرأة في العصور القديمة
|
|
وبالجملة فقد عاش الحجازيون في هذا العهد على أثر خمود حركة ابن الزبير على هامش الحياة السياسية شغل بعضهم الزهد والعبادة والعلم كما شغل الفن ولهوه البعض الآخر ولم يكتفوا بذلك بل عملوا على إشاعة الفن في دمشق تارة وفي اليمن والعراق أخرى. فقد استقدم الوليد بن عبد الملك وأخوه يزيد أشهر المغنين من مكة فأشاعوا أصواتهم في الشام
(7)
وفر الغريض من والي مكة إلى اليمن فنشر ألحانه فيها
(8)
وانتقل تلاميذ مسجح في مكة إلى العراق في أواخر عهد الأمويين فشاعت ألحانهم في العراق وكانت لهم مدرسة أخذ عنها فيما بعد اسحق وابن جامع وغيرهم ونزل الأبجر المغني المكي مصر فشاعت ألحان مكة فيها
(9)
واختلط الحجاج من كل جنس بالفن الغنائي بمكة فنقل من طريقهم إلى أكثر أمصار الإسلام وقد ساعد الأمويون على هذا التوجيه بما يسروه لهم من الأسباب حتى خلف الخلف الذي ورث العيش من جوانبه السهلة وألف الأعطيات والصدقات واتكل على ما ينتجه غيره في أمصار أخرى ونسي أن له حقوقاً في السياسة العامة والحكم. |
ولو جاز لي أن أستبق الحوادث لقلت إن هذا التوجيه الأموي في هذا البلد قلّده جميع الحكومات الإسلامية التي تعاقبت على حكم هذا البلد أو الإشراف عليه، فقد كانوا بالتتابع يغدقون عطاياهم على الحجازيين ليعيشوا مشغولين بهذه المنح لاهين عن جد الحياة لا همَّ لهم إلاّ أن يأكلوا ويطربوا أو يزهدوا فيدعوا لخليفة المسلمين بالنصر، ولو أرادوا الإخلاص فيما كانوا يمنحون لأبدلوا هذه العطايا بدور علمية يبنونها وأرض موات يحيونها وبيوت صناعية ينشئونها ولكنهم كانوا مغرضين. ففي ذمة التاريخ ما ورثنا من تواكل وما نشأنا عليه من فقر وما تعلمناه من استجداء الحجاج والزوّار وما فقدناه في تضاعيف ذلك من رجولة وما ضيعناه من مجد نحن أولى المسلمين بتراثه وأحقهم بحقه. |
|