الناحية السياسية |
كان انتقال الخلافة إلى الشام حداً فاصلاً بين عهدين في الحجاز. فقد كان الحجاز يشعر أنه يمارس سلطة الحاكم الديني في الإسلام كما كانت مكة تضع نفسها في الطليعة من أصحاب الحل والعقد في هذا الحكم فما كاد معاوية يتحول بالخلافة إلى الشام حتى شعر الحجاز أن أمره بات تابعاً بعد أن كان متبوعاً وأن إمارته مربوطة منذ ذلك اليوم بعجلة القيادة العليا في الشام. |
ولقد حاول معاوية أن يعوّض مكة والمدينة ما فقدتاه من السلطة وأن يسري عن أصحابهما من كبار المهاجرين والأنصار ما ملك سبيلاً إلى ذلك فأغدق عليهم من العطايا ما لا يوفي حصره وأباحهم من سجاياه الطيبة ونداه الفياض ما يعجز عنه الوصف. |
كان يفد إليه عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبان بن عثمان وناس من آل أبي طالب وغيرهم من عظماء مكة والمدينة فيكرم مثواهم، ويقضي حوائجهم ويغدق عليهم من أمواله أرقاماً خيالية. |
وكما كان يسع الناس بهذا الندى كان يسعهم بحلمه الواسع وأخلاقه المتينة ويحتمل جرأة بعض المعارضين بصبر قلّ أن يكون له مثيل بين الرجال. |
ذكر صاحب صبح الأعشى
(1)
أن معاوية حج فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل الحجون يقال لها الدارمية فجيء إليه وكانت سوداء مكتنزة اللحم فقال ما حالك يا ابنة حام؟ قالت: لست لحام أدعى إنما أنا امرأة من كنانة، قال: صدقت أتدري لم أرسلت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلاّ الله، قال: بعثت إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبغضتني وواليته وعاديتني قالت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك قالت: أما إذا أبيت فإني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك وطلبك ما ليس لك بحق، قال: ولذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك، قالت: يا هذا بهند كانت تضرب الأمثال لا بي، قال: يا هذه أربعي فإنا لم نقل إلاّ خيراً ثم قال: كيف رأيت علياً؟ فقالت: رأيته لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال: صدقت فهل لك من حاجة. قالت: وتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم. قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها، قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت: أغذي بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار وأصلح بها بين العشائر، قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحلّ عندك محل علي؟ قالت: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك. قال: يا سبحان الله أو دونه، ثم أنشأ يقول وفي قوله جماع سجاياه الكريمة: |
إذا لم أعد بالحلم مني إليكم |
فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم |
خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد |
جزاك على حرب العداوة بالسلم |
|
ثم قال: أما والله لو كان علي ما أعطاك منها شيئاً، قالت: والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين!! |
والذي يستطيع الباحث أن يستنتجه رغم مبالغة القصة أن المجتمع في مكة لم تفتنه يومها انتصارات معاوية كما أن إنعاماته السخية لم تلغ ملكات النقد فيها وأن رفاهية الحياة التي أصبحوا يعيشونها في هذا العهد لم تنسهم طلاقة البداوة وصراحتها ورجولتها وأن قوة معاوية وجبروته لم تثنِ من عزيمة امرأة يسألها إن أعطيتك فهل أحل عندك محل علي؟ فتقول ولا توارب: ((ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك)). |
كما يستطيع أن يستنتج أن معاوية كان يحاول بكل ما ملك من صبر وحلم وجود أن يعوض مكة والمدينة ما فقدتاه من السلطة ولقد نجح في ناحية السياسة كما أراد، كأني بمكة رأت أنه من الخير أن تدين بالطاعة لهذا الرجل العظيم في الشام كما رأت أن له من صحبته برسول الله وعلو بيته في قريش وقوة شخصيته وشدة منعته بالشام وكريم أخلاقه ومننه العظيمة الفياضة ما يؤهله للقيادة ويجعله حرياً بالطاعة. |
لهذا قنع المعارضون فيها وفي المدينة بالأمر الواقع. وأعتقد أنه لو لم يفكر في أخريات أيامه في توريث الخلافة لولده يزيد لما عاد الثائرون في الحرمين إلى المعارضة ولجرى سير التاريخ في غير ما جرى. |
إذن فقد أهابت فكرة التوريث إلى يزيد بالمعارضين ليعيدوها جذعة.. ليذهب ضحيتها ابن بنت رسول الله وليجد عبد الله بن الزبير الفرصة سانحة لدعوته التي طال عليها السكوت. |
ولقد كان عبد الله بن الزبير كما أسلفنا، مثال الزعيم الناهض وكان له من بأسه وشجاعته النادرة وتدينه كل مقومات الزعامة، ولست أشك في أنه كان يحتضن رأي القائلين بإعادة الخلافة إلى مهدها في الحجاز، وأوشك ابن الزبير أن ينجح في المهمة التي اضطلع بها وكاد أن يعيد إلى مكة مركزها من السلطة الدينية وشوهد مروان بن الحكم حجة الأمويين في عهده يعتزم الرحيل إلى مكة ليبايع ابن الزبير فيها لولا أن الشباب من بني أمية قطعوا عليه سبيله في الجابية وأعلنوا مبايعته بالخلافة. |
وكان لهذا أثره، فقد تكاثرت جنود الشام -يقودهم بنو أمية- على صاحب النهضة في مكة حتى أحبطوا مساعيه ودفنوا آماله في بطحائها وعلقوا جثته على مرتفع فيها عند الحجون. |
ولم يقتصر هذا الأثر على ما علمت من إحباط مساعي ابن الزبير ودفن آماله في بطحاء مكة لأننا نرى أنه كان ذلك رد فعل تعدت نتائجه إلى الروح السائدة بين المكيين فأخمدت جذوتها وأطفأت شعلتها وأحالتهم من جديد إلى أناس يعيشون على هامش السياسة الإِسلامية بعد أن كانوا منها في الصميم. |
فقد جدت على أثر فشلهم في حركة ابن الزبير حوادث إسلامية هامة في أمصار الإسلام أثناء حكم بني أمية إلى نهايته اصطفق فيها المسلمون واضطربت أمواجهم فيها فكان للخوارج شأن وللمتشيعين والعلويين والزيديين شأن آخر وللمرجئة والمعتزلة والشعوبية شؤون غيرها فلم يختلط المكيون بشيء مما حدث ولم يشايعوا فريقاً ضد فريق كما لو كانوا قد قنعوا بما جربوا أو يئسوا بعد أن حاولوا، وشيء آخر لا يصح أن نغفله من حسابنا ونحن ندرس هذه الحقبة من تاريخ مكة ذلك أن المكيين كانوا فيما يبدو مأخوذين بالروح التي كانت تسود في عهد الشيخين وبخيال الظل الذي تألق فيما بعد في صورة ابن الزبير فلما أسقط في أيديهم وفاجأتهم الحوادث بغير ما يتخيلون أدهشتهم المفاجأة فظلوا في سكونهم لا ينظرون إلى الحياة بغير نظرة العابث الساخر الذي لا يواجه الحقائق بقدر ما يزوغ منها. إنهم جدوا مرة عندما اعتنقوا مذهب أبي بكر وعمر فلما تشعبت الآراء وانقسمت المذاهب وتحمس أصحاب الدعاوى وكثر الدجاجلة والمهديون والمتنبئون نظروا إلى هذه الفوضى حولهم بروح العابث الذي يلهو ولا يجد. |
ولعلّ أصدق وصف يعطينا دليلاً على صحة ما نرى ما جاء في خطبة ((علي بن محمد بن علي العباسي)) وهو أحد دعاة العباسية فيما بعد وفيها يقول: ((أما الكوفة وسوادها فشيعة علي. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وأما الجزيرة فحرورية صادقة وأما أهل الشام فلا يعرفون غير طاعة بني أمية، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر
(2)
!! هذه النظرة العابثة التي شاعت في المكيين بسبب الثبات على ما ورثوا من أبي بكر وعمر أسلمتهم إلى استقرار طويل دام إلى نهاية العهد الذي ندرسه عهد الأمويين، إلاّ إذا استثنينا بعض النزوات التي كانت تتألق في قصيدة شعرية أو مساجلة أدبية في مجلس من المجالس التي كان بعض الشباب يعقدها في المسجد حول الكعبة -كما تقدم بنا- يناقشون فيها حياتهم أو يعرضون فيها لنقد الأمويين، ومع هذا فقد قاست هذه الأقلية من أصحاب النزوات ما لا يستهان به، فقد ضيق يوسف بن محمد بن هشام علي العرجي الشاعر في مكة لما بلغه من هجو بني أمية ثم جلده وسجنه إلى أن مات في السجن بعد نحو تسع سنوات، وضيق خالد بن عبد الله القسري على سعيد بن جبير وعذبه، وضيق الوليد بن عروة السعدي آخر عمال بني أمية على جماعة من شبابها كانوا يسمرون في المسجد إلى ما بعد منتصف الليل وقد بلغه أنهم يتحدثون في سياسة الأمويين ويتعرضون لنقدها فجعل عليهم الأرصاد حتى تفرق بعضهم ونكل بالبعض الآخر، كما نكل بشاعرهم المعروف سديف بن ميمون وكان من أفراد جماعتهم فأمر بسجنه وجعل يجلده في كل سبت مائة سوط، وقد ذكروا أنه بقي في سجنه حتى أطلقه العباسيون في دخولهم إلى مكة، وفي ذلك أنشأ قصيدته المعروفة ومطلعها: |
أصبح الدين ثابت الأساس |
بالبهاليل من بني العباس
(3)
|
|
وفيها يندد بالأمويين: |
فلقد غاظني وغاظ سوائي |
قربهم من نمارق وكراس |
|
والقصيدة مطولة حفلت بها كتب الأدب. |
ونعود إلى روح السخرية الذي ساد مجموع الأمة لنجده وقد أسلمهم إلى القناعة. ثم أسلمت القناعة بعضهم إلى نوع من الزهد فكان منهم المتعبدون والورعون والمنقطعون إلى العلم، كما أسلمت بعضاً آخر إلى شيء من العبث بالحياة وساقهم إلى لون من المجون فيه شيء من الفن وشيء آخر من اللعب واللهو كما سيأتينا. |
|