شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الناحية الإدارية
ذكرنا أن قصياً كان أول رجل من بني كنانة أصاب ملكاً فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة والقيادة (1) وسمى قصي مجمعاً لأنه جمع قريشاً بمكة، وسميت قريش في ذلك العام قريشاً لأنها تجمعت والتجمع التقرش في بعض كلام العرب ولم يسم قرشي قبل ذلك اليوم.
وكان قصي عملياً أكثر مما كان يظنه قومه، فإنه ما كاد يستلم زمام الحكم في مكة حتى أسس دار الندوة لشورى قريش ولم يكن يدخلها من قريش إلاّ من بلغ الأربعين وهيأه مركزه أو خدماته لدخولها من بطون قريش البطاح وهم هاشم وأمية ومخزوم وجمح وسهم وتيم وعدي وأسد ونوفل وزهرة (2) كما كان أورستقراطياً لأنه أباح لأولاد قصي دخولها كما شاءوا بلا فارق في السن.
وعني قُصي بسقاية الحجاج فاتخذ لهم حياضاً من أدم (3) توضع بفناء الكعبة ويسقي فيها الماء العذب من الآبار محمولة على الإبل من أطراف مكة البعيدة، كما عني بتتبع مظان الماء العذب في مكة، فحفر بئر العجول وهي في المكان الذي يمتد فيه رواق المسجد اليوم مما يلي باب الحميدية (4) وباب الوداع وحفر بئراً عند الردم بجانب مسجد الراية وهي البئر الموجودة اليوم في ((الجودرية)) في الزقاق الواقع أمام قصر الجفالي (5) وسمي بئر جبير بن مطعم لأن جبيراً هذا نثله بعد أن اندثر واتخذت العناية بالآبار بعد قصي سنَّة لأولاده فكانوا يتتبعون مظان المياه العذبة ويحتفرون فيها الآبار.
وعني قصي إلى جانب العناية بسقيا الحجاج بالرفادة، فكان على قريش خرج تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي يصنع به طعاماً للحاج يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.
وكان يشتري بما يجتمع عنده دقيقاً، ويأخذ من كل ذبيحة -بدنة أو بقرة أو شاة- فخذها فيجمع ذلك كله ثم يجزر به الدقيق ويطعمه الحاج، واتخذ أولاده هذه سنَّة بعده حتى أن عمراً حفيده اضطر عندما أصاب مكة في عهده جدب شديد أن يجمع ما تجمع لديه من قريش ويخرج به إلى الشام فيشتري به دقيقاً وكعكاً فيهشم الكعك وينحر الجزور ويطبخه ويجعله ثريداً ويطعم الناس في مجاعتهم وقد سمي بذلك هاشماً (6) وفيه يقول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
وجاء الإسلام وقريش تتخذ هذه السَّنة عادة موسمية فأمضاها النبي صلى الله عليه وسلم إذ أرسل بمال مع أبي بكر رضي الله عنه عندما أمره أن يحج بالناس سنة تسع للهجرة ليصنع به طعاماً للحجاج (7) ، وفعل مثل ذلك في حجته للوداع ثم أقام أبو بكر على هذا وكذلك بقية الخلفاء بعده، يقول أبو الوليد الأزرقي: وظل العمل على هذا إلى أيامنا هذه يطعم الخلفاء الموسم في أيام الحج بمكة ومنى حتى تنقضي أيام الموسم وقد عاش أبو الوليد في القرن الثالث الهجري وتوفي حول منتصفه.
ولم أقع فيما قرأت على العهد الذي ألغيت فيه هذه العادة الحسنة وأكبر ظني أنها أبطلت على أثر الفتن والحروب التي كانت السبل تقطع فيها دون مكة ويلفت نظرنا في هذه السنة أنها كانت خرجاً عاماً تشترك فيه قريش بأموالها ويشترك المسلمون فيه في الصدر الأول للإسلام وأن هذا الاشتراك الشعبي ما لبث أن انتقل بتقادم العصور إلى خزائن الخلفاء أو بيوت الأموال، فهل تقاعس المكيون عن المجد؟ أم أن أموالهم ضاقت دونه -؟ الواقع أن قريشاً كانت من أنشط القبائل في جزيرة العرب تجارة كما بينّا ذلك في بحث أعمالها التجارية، فكانت بذلك في غنى تسع فضلاته إطعام الموسم وجاء الإسلام فاتسع نشاط قريش باتساع رقعة الإسلام، ودرَّت الفتوحات والتجارة النشيطة عليهم الأموال الطائلة وأخصبت أراضيهم في الطائف والمدينة وبعض ضواحي مكة وكثير من أوديتها القريبة بتأثير نشاط المال والعناية بحفر الآبار ثم ما لبث أن فتر النشاط وفتر بفتوره الغنى والثروة والخصب على أثر انتقال الصفوة الممتازة من قريش إلى الأمصار بثرواتهم وأموالهم وكفاءتهم يتبعون مواطن الخلافة خارج الجزيرة، وظل الحجاز بلداً لا يعنى به إلاّ كرباط أو تكية يمنحه الخلفاء والملوك صدقاتهم ولا يهيئون أهله لغير تطويف الحجاج وأن يدعوا لأصحاب السلطان بطول البقاء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :506  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.