قُصَيّ بن كلاب |
لبثت خزاعة على ما هي عليه وظل أولاد إسماعيل بعد جلائهم من مكة متفرقين بين اليمن واليمامة والبحرين وأطراف الحجاز، وقيل أن بعض قبائلهم وصلت إلى العراق والشام، ويختلف المؤرخون في عدد القبائل التي تفرعت من أولاد إسماعيل ولكنهم يكادون أن يتفقوا على أن أبرزهم عدنان وتفرع من أولاد عدنان ربيعة ومضر وإياد وأنمار
(1)
فكان قصي من أولاد مضر، وقد عاش قصي بعيداً عن موطن أجداده في أرض قضاعة لا ينتمي إلاّ إلى زوج أمه ربيعة بن حرام من قضاعة. |
وحدث بين قصي ورجل من قضاعة شيء فقال له القضاعي ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا، فرجع قصي إلى أمه وفي نفسه مما قال القضاعي شيء فسألها عما قاله فقالت والله يا بني أنت خير منه وأكرم.. أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة من أولاد مضر وقومك أصحاب البيت الحرام وما حوله فأجمع قصي على الخروج إلى قومه واللحاق بهم وكره الإقامة في أرض قضاعة فخرج مع الحاج حتى جاء مكة وأمر مكة يومئذ إلى حليل بن حبشية الخزاعي، وفي يده مفتاح الكعبة فخطب إليه ابنته فلما عرف نسبه رغب فيه وزوجه فأقام معها حتى ولدت له وكان حليل إذا اعتل أعطى المفتاح ابنته لتفتح البيت فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصياً أو بعض أولادها منه ولما حضرت حليلاً الوفاة دعا قصياً فجعل له ولاية البيت وأسلم له المفتاح فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك وأخذوا منه المفتاح فمشى قصي إلى قومه من بني كنانة فأجابوه إلى نصرته وأرسل إلى أخ له من أمه في قضاعة فمشى إليه في جمع من قضاعة يبغون نصرته فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل وعظموا عليهم القتال فأبت خزاعة فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك من الدماء
(2)
ثم تداعوا إلى الصلح بعد قتال شديد واحتكموا إلى يعمر بن عوف وهو رجل من كنانة فحكم لقصي بحجابة الكعبة وولاية مكة دون خزاعة تنفيذاً لوصية حليل وألا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة فسلمت خزاعة لقصي بذلك
(3)
فولي الأمر وجمع قومه فأنزلهم مكة يستعز بهم وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الميلادي تقريباً وظلت خزاعة في رباعها لم يحركوا شيئاً وبذلك كان قصي أول رجل من كنانة أصاب ملكاً وقد نظم إدارته كما سيأتينا. |
أولاد قصي: وتوفي قصي فانتقل الأمر إلى ابنه عبد الدار ولم ينافسه في ذلك أخوه عبد مناف ولكن أبناء عبد مناف أبوا على أبناء عمهم عبد الدار انفرادهم بمصالح قريش بعد وفاة الأبوين، وكاد أن ينشب القتال لولا أن أسرع الوسطاء بينهم بالصلح وقد أرضى الصلح الفريقين بتقسيم مصالح قريش بينهم بالقرعة
(4)
. |
وبذلك كانت الرياسة في بني عبد مناف فوليها هاشم ثم نافسه أخوه أمية فكانت منافرات طال شأنها وغلب في نهايتها أمية على أمره فكانت أول منافرة بين الأمويين والهاشميين. |
((وانتهت الرياسة في قريش بعد هاشم إلى ابنه عبد المطلب فتفاقم الخلاف بينه وبين بني عمومته بني أمية ولكن كان حظ عبد المطلب كحظ أبيه ((هاشم)) فظفر من الشرف والرياسة والجاه في قريش بما لم يظفر به بنو عمومته))
(5)
. |
نثل زمزم: ومن أهم أعمال عبد المطلب كشفه عن بئر زمزم وكانت قد خفيت معالمها ومحيت آثارها بتقادم السنين وقد قيل أنه رأى في منامه من دله على مكانها فصحت عزيمته على نثلها وحفر أعماقها فلم تمكنه قريش من ذلك لقداسة الصنم الذي يقوم مكانها فأسرها في نفسه حتى تقادم العهد على الفكرة واستوى له من صلبه عشرة أولاد فمضى في عزمه مستنداً على سواعد أبنائه
(6)
وبذلك عادت زمزم إلى سابق عهدها يستقي منها الشاربون، وقد وجد عند كشف زمزم غزالين من ذهب وجواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً كان ساسان ملك الفرس قد أهداها للحرم فدفن ذلك مع زمزم فلما وجدها عبد المطلب صنع باب الكعبة منها. |
موقعة الفيل: وفي عهد عبد المطلب كانت واقعة الفيل.. وأصحاب الفيل هم طغاة من الأحباش كانوا قد زحفوا على اليمن فاستعمروا أهلها ثم ما لبث قائدهم أبرهة أن تطلع إلى مد نفوذه إلى الحجاز كعبة العرب فشرع يناوئ مكانتها الدينية بإنشاء كعبة فخمة آملاً أن تنصرف إليها أذهان العرب عن مكة فلما لم تنجح فكرته وظلت الكعبة على قدسيتها في نظر العرب أبى إلاّ أن يضع حداً عملياً لنهاية هذا التقديس فجهّز جيشاً عظيماً وسيره إلى مكة لهدم كعبتها
(7)
فأصبحت قريش ذات يوم على أصوات المغيرين يتقدمهم فيل عظيم ولم يكن للعرب عهد بمثل ذلك فلم يسع عبد المطلب إلاّ أن ينادي في قريش أن يحجزوا إبلهم ويحموها ويتركوا أمر البيت ((فإن للبيت رباً يحميه)) ثم قام إلى باب الكعبة فأخذ بحلقته وهو يبتهل: |
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك |
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك |
ولئن فعلت فإنه أمر تتم به فعالك |
|
ولقد حمى الله البيت بأبلغ ما تكون به الحماية ودفع عنه بأشد ما يكون الدفاع وأعظمه
(8)
. |
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ (الفيل: 1-5) صدق الله العظيم. |
الانحلال في مكة: وظل الأمر لعبد المطلب في مكة على أثر هذا، إلاّ أن القبائل النازحة إلى جوار البيت كانت قد تكاثرت وتفاقم تناسلها فتفرقت بطوناً في بادية مكة وشرعت كل بطن تعتز بسيد فيها فتعددت السلطات وتنوّعت أحكامها وتقاليدها وتعددت العقائد والديانات وغدا أصحاب الشهوات يتفننون في شهواتهم محتمين بتقاليدهم القبلية لا يهابون حكماً ولا يخشون سلطاناً. |
إهلال النبي: وفي خضم هذه الفوضى وغمرة هذا الانحلال كانت آمنة بنت وهب تتمخض في بيت من بيوت عبد المطلب.. وفي ليلة زاهرة من ليالي قريش أهلَّ هلال النبي صلى الله عليه وسلم. |
ودرج النبي صلى الله عليه وسلم كأفضل ما يدرج الصبيان أدباً حتى يفع في أطهر ما يفع فيه شاب اختارته العناية الإلهية لا ليقود أمته إلى طريق الخلاص والنور فحسب بل ليضع يده على مقدرات التاريخ فيصوغها من جديد ويترك أثره فيها قوياً لا تمحوه جبابرة الأرض وأكاسرتها خالداً لا تعفيه أحداث الحياة أبد الآبدين. |
عمارة الكعبة: وفي هذه الأثناء انتاب قريشاً ما انتابها من حريق الكعبة وتصدع بنائها ووهن أحجارها -فارتاعت قريش وحارت في أمرها أيما حيرة ولما قال قائلهم بضرورة هدمها وإعادة بنائها وقفوا من ذلك وقفة الخائف الملتاع حتى تقدم الوليد بن المغيرة فاقتلع أول حجر وهو يقول: اللَّهمَّ لا ترع ((الأشر))، لا نريد إلاّ الخير. فأتبعه الناس وقاموا بمعاولهم على نقضها. |
وشارك النبي وهو شاب في نقل حجارتها مع الناقلين من بني هاشم فقد كانت كل قبيلة تجمع ما تنقله على حدتها وشرع البناؤون في البناء وكانت قريش تنقل الحجارة من حراء وثبير ومن جبل المقطع بين الطائف وعرفات ومن خندمة ومن جبل حلحلة بالقرب من الزاهر. |
وعندما بلغ البناء موضع الحجر الأسود اختصموا في شأنه
(9)
كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه حتى إذا أعدّوا أنفسهم للقتال خرج فيهم أمية بن المغيرة وهو يومئذ أسنّهم فقال: يا معشر قريش اجعلوا فيما تختلفون فيه أول داخل إلى المسجد فكان أول داخل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا هذا الأمين وقد رضيناه فلما انتهى إليهم وأخبروه قال صلى الله عليه وسلم هلمّ إليّ ثوباً فأخذ الثوب فوضع الحجر فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم رفعوه جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بني عليه. |
وظلوا على عملهم في البناء حتى أتموا البيت في ارتفاع ثمانية عشر ذراعاً أي بزيادة تسعة أذرع عما كان بناها إبراهيم عليه السلام، وكان الحجر ضيقاً في عهد إبراهيم فوسعوه بما نقصوه من عرض الكعبة ورفعوا بابها في مصراع واحد ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا وكبسوها بالحجارة وكانت في عهد إبراهيم غير مسقوفة فاتخذوا لها سقفاً وجعلوا لها ميزاباً لتصريف مياه المطر
(10)
. |
|
بناء الكعبة في عهد قريش والصورة من تصميم الشيخ طاهر الكردي الخطاط بمكة
|
|
|