شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في عهد إسماعيل
قدم إسماعيل مكة أول ما قدمها طفلاً في صحبة أمه وأبيه ومكة إذ ذاك فلاة ينبت فيها السلم والسمر (1) وقد قيل أن العماليق سكنوها قبل قدومه (2) وأن إسماعيل لم يصلها حتى كانت جُرْهم قد حلت محل العماليق في ظروف لم تثبت كيفيتها في التاريخ وبذلك سكنت جرهم وادي مكة أو على مسافة قصيرة منها.
وتتعدد روايات مؤرخي الإسلام في تفسير الظروف التي لابست هجرة إسماعيل إلى مكة ونزوله فيها مع أمه وأبيه وهي فلاة لا تنبع فيها قطرة ماء ولكنهم يتفقون على أن إبراهيم عليه السلام ما كاد يودع إسماعيل هذه القفار حتى توجه يدعو الله رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (إبراهيم: 37) كما يتفقون على أن إسماعيل عليه السلام ما كاد يرهقه العطش حتى ظهر لأمه نبع زمزم فشربت وأروته (3) .
وتسامعت جرهم بخبر البئر -في رواية من يقول أن جرهم كانت تسكن على مسافة قصيرة من مكة فاستأذنت لتنقل بيوتها حول البئر واحتضنت إسماعيل فنشأ بينها وتعلم منها العربية وتزوج من فتياتها فأنجبت نسلاً أطلق عليه المؤرخون اسم العرب المستعربة.
وجاء إبراهيم عليه السلام ليتفقد ابنه ويبلغه أن الله يأمر ببناء البيت الحرام ويتفقا على رفع قواعده حيث بدت لهم علامات خاصة في القطعة المختارة للبناء على خطوات من بئر زمزم (4) -وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة: 127).
ولما ارتفع البناء وشق على الشيخ تناوله، قرَّب إسماعيل عليه السلام حجراً يقوم عليه أبوه ليبلغ به المدى الذي يمكن أن يبلغه فوق الحجر فسمي الحجر مقام إبراهيم لقيامه عليه أو سمي المكان بذلك حيث ترك الحجر -والحجر باقٍ إلى اليوم على حافة المطاف في المكان الذي تركه فيه إبراهيم في بعض الروايات أو على غير بعيد من المكان الذي تركه فيه في روايات أخرى، ومن أجل هذا اختلف المفسرون في تفسير كلمة (مقام إبراهيم) فيطلقها بعضهم على الحجر نفسه كما يطلقها بعضهم على المكان الذي وضع فيه الحجر كما يطلقها بعضهم على المسجد أو جميع الحرم إلى حدود الحل.
وهكذا أنشأ إسماعيل مكة ورفع أبوه بمعونته قواعد البيت.

صورة الكعبة كما بناها إبراهيم عليه السلام وهي كما يبدو قليلة الارتفاع واسعة العرض مدورة جهة حجر إسماعيل ويظهر الفرق في هندستها إذا قورنت بشكل بنائها فيما بعد كما سيأتينا. والرسم من تصميم الشيخ طاهر الكردي الخطاط بمكة

جرهم وقطورا: ولما توفي إسماعيل تولى الأمر أبناؤه حتى انتهى إلى حفيده مضاض ابن عمرو الجرهمي (5) ، وكان الجرهميون قد انقسموا إلى قسمين: جرهم وقطورا، وقد سكن مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة وقعيقعان كما سكنت قطورا وعلى رأسها السميدع أجياداً وأسفل مكة مما حاذى ذلك، وكان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها وكان السميذع يعشر من دخل من أسفلها، وكل من البطنين على جباله لا يدخل واحد منهما على صاحبه (6) .
ومن هذا يبدو لنا أن مكة عندما انقضى على تأسيسها العهد الذي عاش فيه إسماعيل إلى أن ولي الأمر حفيداه مضاض في جرهم والسميذع (7) في قطورا -وهو ما يقدره المؤرخون بنحو قرنين من الزمان- كان السكن في مكة قد امتد بجرهم من بطن الوادي بجوار زمزم آخذاً سمته إلى قعيقعان في الشمال ونسميه أو بعضه اليوم (جبل الهندي) وإلى الشمال الشرقي بما يحاذي القشاشية والمسعى متوجهاً إلى أعلى مكة، كما تغلغل أبناء عمومتهم من قطورا في شعب أجياد إلى ما يتصل بالسد من ناحية وفي شارع المالية إلى المصافي من ناحية أخرى، ثم انحدرت منازلهم بانحدار الوادي من أجياد في ما نسميه المسيال حتى اتصلت بأطراف المسفلة كما يبدو أن الأحياء الأخرى من مكة لم يتصل بها العمران إلاّ في قرون متأخرة ولعلّها كانت كذلك لوعورة الأرض فيها قبل أن تمهدها الحاجة للسكنى.
ولسنا نشك في أن مضارب السكان كانت من الشعر، وكانت تتلاصق مرة وتتباعد مرات في حواشي الوادي وبين ثنيات الجبال في صور لا تختلف كثيراً عما نشاهده في مضارب البدو بين ظهرانينا اليوم.
الخلاف بين جرهم وقطورا: وما لبثت أن اختلفت جرهم مع قطورا، فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان في كتيبة سائراً إلى السميذع والسيوف والجعاب تقعقع معه، ولذلك سمي جبلهم قعيقعان، وخرج السميذع بقطورا ومعه الرجال والجياد، ولذلك سميت منطقتهم أجياداً حتى التقوا بفاضح (8) فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل السميذع، وتراجعت قطورا ثم تداعوا للصلح.
ولاية مضاض: ثم صاروا حتى نزلوا المطابخ (9) حيث اصطلحوا فيه وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو الجرهمي، وبذلك استقام له الأمر في مكة (10) .
خزاعة: وظل الأمر على ذلك حتى استخفت جرهم بأمر البيت فسلط الله عليهم قبيلاً من اليمن من أولاد قحطان فأزاحهم في أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع الميلادي، وذلك أن عمرو بن ماء السماء وينتهي نسبه إلى امرئ القيس ثم يعرب بن قحطان وكانت منازله في جنوب الجزيرة -ارتحل وقومه من منازلهم فراراً من حوادث سيل العرم ثم سار من بلد إلى بلد لا يطأ بلداً إلاّ غلب عليه أهله وقهرهم، ثم يرتحل وقومه ليبحثوا عن أفضل منه حتى وصلوا مكة، وعليها مضاض فأبت جرهم أن تنزلهم طوعاً وتعبأت لقتالهم فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم فلم ينج منهم إلاّ الشريد، وبذلك تم الفتح للقحطانيين واستقام الأمر لهم في مكة (11) .
ولا يتناسب المناخ وطبيعة الجو في مكة مع ما ألفه القحطانيون، وقد عاشوا في جنوب الجزيرة حيث الخصوبة ووفرة المياه وسهولة الأرض، فارتحلت أكثر بطون القبيلة ترتاد البلاد التي تتناسب وما ألفت، وانخزعت بمكة بطن من القحطانيين -أي انقسمت- وتلك هي خزاعة وبذلك ورثت خزاعة الحكم في مكة، وقام سيدها ربيعة بن حارثة بالأمر فيها.
وكان بعض بني إسماعيل قد اعتزلوا في فترة الحرب وقبلها أخوالهم من جرهم غير راضين عن أعمالهم في مكة كما أنهم لم يسايروا المغيرين من قحطان أو يناوئوهم بل ظلوا في حيادهم منعزلين حتى إذا استتب الأمر لخزاعة سألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم.
ولما انتهى أمر مكة إلى عمر بن لحي سيد خزاعة تمنى عليه رئيس حكومة مكة السابق مضاض الجرهمي (12) أن يأذن له في السكنى بمكة فأبى عليه ذلك ونادى في قومه من وجد منكم جرهمياً قد قارب الحرم فدمه هدر (13) .
ونزعت إبل المضاض تريد مكة بعد جلائه عنها فخرج في طلبها حتى وجد آثارها قد دخلت مكة فمضى إلى الجبال من ناحية أجياد حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن الوادي فأبصر الإبل تنحر وتؤكل ولا سبيل إليها فخاف أن هبط إلى الوادي أن يقتل، فولى منصرفاً إلى أهله، وأنشد يقول:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربع واسطاً فجنونه
إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر (14)
في قصيدة أوردها كثير من المؤرخين ولا أجدني جريئاً كل الجرأة في الأخذ بصحة نسبتها إلى مضاض إلاّ إذا صح لديّ ما يثبت أن لغة الجرهميين كانت في مثل هذه الألفاظ السلسة، ومثل هذه المعاني الواضحة (15) .
وظلت خزاعة على أمرها في مكة يحكمها كبيرها عمرو بن لحي الذي بلغ بمكة من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله حتى قالوا إن الرجل منهم كان إذا ملك ألف ناقة فقأ عين فحلها وقد فقأ عمرو بن لحي عين عشرين فحلاً (16) :
وكان عمرو أول من أطعم الحاج بمكة سدايف الإبل ولحمانها على الثريد وعم في تلك السنة جميع حاج العرب بثلاثة أثواب من برد اليمن، وكان قوله فيهم ديناً متبعاً لا يخالف وهو الذي وصل الوصيلة وحمى الحام وسيب السائبة ونصب الأصنام حول الكعبة وجاء بهبل من الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة، فكانت العرب تقتسم بالأزلام وهو أول من غيَّر دين إبراهيم عليه السلام. فقد كان كثير الأسفار وربما تأثر بالفينيقيين أو الآشوريين أو المصريين وهم جيران الجزيرة العربية فنقل وثنيتهم إلى مكة وقد يقال أن العرب تأثرت بجيرانها في عبادة الأوثان قبل عمرو بن لحي، وكلها أقوال يصح فيها الاجتهاد والحدس (17) .
وولى البيت عمرو بن لحي وولده مدة حكمهم لم يخربوا في البيت شيئاً ولم يبنوا فيه حتى آل أمره إلى قصي بن كلاب في القرن الخامس الميلادي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1108  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.