شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(12)
وعندما انتهى حسن إلى هذا الحد من حديثه كان قد أرهقه البحث، وشعر ضيفه أنه تأخر إلى أكثر مما كان يقدر. فاستأذن في الانصراف، واقترح أن يوافيه حسن في بيته في مساء الغد ليستأنفا منافسة موضوعهما.
وبينما كان حسن يصعد السلم في بيت صديقه لينادي على من في الدار معلناً قدومه، إذا بصوت رقيق يتناهى إلى أذنيه في لهجة غريبة عن البلاد.
كانت صاحبة الصوت تحدث خادمتها في نبرة لامست مشاعره، وشاعت في كيانه شيوع الكهرباء، وهزته في قوة وعنف.
إنه صوتها في نبراته العذبة، وإنها لهجة بلادها حيث كان ينعم بقربها في بيت والدها في المدينة القصية التي تعرف بهم فيها قبل أن يغادرها إلى المصيف. فأي شيطان أعارها أجنحة إلى هذه البقعة النائية؟ وأية مناسبة انتهت بها إلى هذه الدار؟
كان له أن يرتاب في حقيقة ما انتهى إليه من صوتها لأنه يجد ما يبرر وجودها في مثل هذا البيت. ولكن وجد أنه كان يحس بما ينفي الريب، وكان شعوره العميق يؤكد له أن ما تناهى إليه لم يكن غير صوتها.
وجمدت أقدامه حيث كان يقف من سلم البيت، وتخاذلت أعصابه. ولكنه استطاع أن يستجمع قواه، وأن يرفع صوته في تخامل لينادي على صاحب البيت.
واستقبله صاحب البيت مرحباً وعندما استقر مقامه كان المفروض أن يستأنفا حديثهما في ما اجتمعا من أجله ولكن حسن كان قد نسي البحث الذي يشغله والفكرة التي يدعو إليها، ولم يبق في مخيلته إلاّ ما يدور حول الصوت وصاحبته وما أثار من ذكريات وشجوى.. قال بعد أن أزدرد لعابه في صعوبة وضغط على مخارج ألفاظه ليخفي لعثمة لسانه.
- أرى أنه لا يزال في بيتك بقايا حجاج لم يغادروا مكة.
- لم يبق في بيتي حجاج.
ولكنني سمعت أصواتاً ليس فيها من لهجة البلاد شيء.
- إنها أختي.
- أختك؟ وهل تتكلم أختك بغير لهجة بلادها؟
- إنها لم تضع قدمها في هذه البلاد إلاّ منذ شهرين، فقد نشأت في مدينة.. ودرست في جامعتها، ولم أتعرف بها إلاّ أخيراً، وقد عرضت عليها الإقامة في مكة فوافقت فصحبتها معي.
- من الغريب أن تكون لك أخت لم تتعرف إليها إلاّ أخيراً.
كنت أعلم أن والدي تزوج من فتاة ألبانية في إحدى جولاته في ألبانيا، وأنه أبقى الأمر مكتوماً عن والدتي إلى أن توفي، ولكني كنت أجهل أنه أنجب منها حتى ساقتني الصدف في هذا العام إلى مدينة.. فإذا بسيدة ألبانية تستوقفني في حديقة عامة وتسألني في لهجة عربية ركيكة عن اسم والدي، فلما ذكرته لها أخبرتني أنه كان قد تزوج بها في صباها وأنها عرفتني من ملامح عامة في وجهي.
واستضافتني في اليوم الثاني فاجتمعت في بيتها بفتاة من طالبات الجامعات وقبل أن أتعرف بالفتاة بادرتني الأم وقالت لي: إني سأكشف عن سر خطير في حياة هذه الفتاة التي تواجهك.. إنها أختك فقد أنجبتها من أبيك يوم كنت في بلادي، وعندما توفي والدك وكانت صغيرة، بنى لي زوجي الحالي ونقلني إلى بلاده هنا، فأحببت ألا أسيء إلى شعور ابنتي فتركتها تفهم أنه أبوها.
وسر زوجي الحالي لذلك فساعدني على ما أردت ولم يشك أحد من المعارف في هذه البلاد حقيقة نسبتها إلى زوجي لأني تزوجته في ألبانيا ولم ننتقل إلى هذه البلاد إلاّ متأخرين. أما اليوم وقد ساقتك الصدف إلى لقائي فإني لا أرى ما يدعو إلى الاستمرار في ما خدعت لهذا فإني أصارحكما أن أباكما رجل واحد.
وما أتمت كلامها حتى كنت قد تأثرت بما سمعت ورأيت أختي تمسح دموعها من فرط التأثر، وبذلك تعارفنا وأصبحنا إخواناً منذ تلك الجلسة.
وحضر زوج السيدة فوافق على حقيقة السر وبارك هذه الصدفة.
ولما اعتزمت العودة إلى بلادي عرضت على أختي أن تصحبني إلى مكة في فترة إجازة الجامعة فسرها ذلك ورافقتني بعد أن أذنت أمها.
ومن الصدف أني سمعتها مرة تذكر اسمك وقد فهمت أنك تزور بيت من كانت تسميه والدها، وأنها حضرت مجلسك في بعض المرات.
سمع حسن قصة صديقه وهو مأخوذ بغرابتها شارد اللب من تأثير مفاجأتها.. كان يشعر أن كيانه يهتز وأن رعدة خفيفة تسري في مفاصله، فاتكأ على مسند بجواره، وراح يستجمع ما تبدد من قواه ويتحامل على نفسه بأقصى ما يملك من ثبات وجلد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :367  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج