(9) |
انتهى الحجاج من أداء مناسكهم، وشرعوا يغادرون مكة أفواجاً فأعد حسن عدته لاستحصال ما يستحقه لدى حجاجه، وقد أراد أن يكون نظامياً، فأحصى ما يستحقه من كل فرقة على حدتها، ونظم بيانات خاصة، أوضح فيها أمام كل رقم ما ينبغي من الإيضاح. وبدأ فقدم أول بيان لأول فرقة حل أوان سفرها. |
كان الأمر جديداً لم يتعوده الحجاج.. وكان حسن يعلم جدة الفكرة، ولكنه كان يقول لنفسه لم يكن الأمر غير هذا؟ |
قد يكون الحجاج معذورين، فقد تعودوا أن يمنحوني بعض هباتهم أثناء تجوالي في بلادهم، فمن الصفاقة أن يتحسن على الحاج بالأمس حتى إذا وفاني ناقشته الحساب، وطالبته بآخر مليم أستحقه لديه. |
إنها لصفاقة بالنسبة إلى ذلك، ولكنها صفاقة أكثر أن أبيع حقوقاً أستحقها وأنا موفور الكرامة شامخ الرأس لأشتري بها هبات يكتنفها من الهون ما يكتنف جميع الصدقات من جميع الألوان! وما دمت قد تعففت في عامي هذا، ورفضت ما يصلني من هباتهم. فما يمنع الحاج أن يقدر عفتي ويساعدني على السمو بكرامتي، وأن يقف بي أمامه موقف الند الذي يباح له نقاش الحساب، كما يباح للتاجر والعميل ومديري الفنادق. |
قال هذا لنفسه ثم عاد يضيف: ولكن ثمة ناحية أخرى في الموضوع تحول دون تهيئتي لموقف الند من الحاج ولا تؤهلني لمناقشته في حقوقي.. تلك حاجتي إلى مساعداته في المستقبل. فإذا تملقته اليوم، وخفضت رأسي لأتناول من يده ما تسخو به نفسه كما لو كانت هبة جديدة سيمنحنيها فسأربح دعايته لي في بلاده، وسيستطيع أن يقدمني غداً إلى كافة أقاربه كرجل طيب يعرف فضل المحسنين ولا يناقش ما يتبرعون!! |
إذاً فموقفي ضعيف من جميع نواحيه، ونجاحي في مهنتي يتوقف على مقدار ما يبدو من ضعفي وانحناء هامتي!! |
فكر حسن في جميع هذا، وناقش نفسه فيه قبل أن يقدم بيان الحساب لأول فرقة آن أوان سفرها، ولكنه أبى أن يهن وشد عزمه على مقابلة الحجاج بالحجة، وأن يترك سمعته للأقدار توجهها إلى ما شاءت. |
وتناولت الفرقة بيانه بضحكة فيها من السخرية والهزء أكثر مماس فيها من أي شيء آخر. ولم يكونوا ملومين فقد علموا أن غيره من المطوفين لم يتذرع بهذه الصفاقة، وإن كثيراً منهم قبلوا ما تقدم إليهم في مقادير قد تبلغ نصف ما طلبه حسن أو أكثر قليلاً. ثم أشفعوها بدعوات حارة للحاج بأن البقية ذخيرة لهم، ولا يحرمهم عطفه، والعناية بالدعاية لاسمه. |
قال حسن لرئيس الفرقة: قد أكون أخطأت في ما قدرت ولكن إذا تفضلتم بمناقشة كل رقم على حدته وبحثتم حقيقته فسيظهر موقفي على جليته. |
فقال رئيس الفرقة: ولكن غيرك لم يطالب بما طالبت، ولم يبد من العنت ما أبديت في بياناتك التي شرعت توزعها على حجاجك.. إن في هذا من الجفاء ما لا يتفق مع مهنتك وما عرف به زملاؤك. |
قال: ولكنهم مظلومون. |
- وما يحملهم على أن يكونوا مظلومين؟ |
- إنهم مستضعفون! يخشون مناقشة الحجاج لأن مستقبلهم رهين بكلمة يذيعها هؤلاء عنهم إذا عادوا إلى بلادهم. |
- وهل عزمت الاستغناء عما يذاع عنك، ونويت أن تناقش حجاجك فيما يخجل فيه غيرك، وأن تقفل أبواب بيتك إلى الأبد؟ |
استفاق حسن من غفلته على صوت هذا التهديد، وشعر بمقدار الخطر الذي ينتظره إذا سلك الطريق الذي اختاره، والذي تخيل أن يقف فيه الند للند ثم راح يقول لنفسه: |
لا لوم على الحجاج الذين لا يجدون مراجعة من مطوفيهم ولا لوم على المطوفين الذين لا يجرأون على المقاومة خجلاً من هباتهم السابقة وخوفاً من تعريض سمعتهم إلى ما يصرف عنهم الحجاج. إلى أن قال: وأنا اليوم بين أمرين إما أن أنتزع حريتي كندّ، وأتكلف أمام الحجاج موقف التاجر الذي لا يتسامح في قرش يستحقه فأسيء إلى سمعتي. أو أدرج في ما درج فيه غيري، وأقنع بما يصلني قناعة المستعطي بما يهبون وعساني أتعوض غداً ما أخسره اليوم إذا ضمتني بلادهم، ووصلتني هباتهم التي تعففت عنها جهلاً بالواقع. |
ولم يترك حسن مجلسه حتى كان قد عول على تمزيق جميع البيانات، وإعلان الحجاج بأنه غرسُ نعمتهم، وأنه سيقبل ما يمنحونه كتبرع منهم تاركاً تقدير الأمور إلى مروءتهم. |
ولا يدري إلاّ الله كيف قضى ليلته بعد ذلك، وما مقدار الدموع التي سحت من عيونه حزناً على هوان موقفه. |
|