شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(8)
انقضت الأيام الأولى من شهر ذي الحجّة، وبدأ الناس يستعدون للخروج إلى عرفات. وكانت شركة السيارات قد رتبت شؤون سياراتها، وابتدأت توزعها على المطوفين بنسبة حجاجهم على أن تنقلهم السيارات على ثلاث دفعات.
وبالرغم من عناء الشركة بازدحام المطوفين وتزايد عملها في أيام ضيقة؛ فإنها كانت سعيدة بسيادة مركزها على المطوفين. فالمطوف في أشد الحاجة لأن يسترضي كل فرد من موظفيها كما يسترضي حجاجه. وأن يخاطب أصحابها في لهجة المتوسل إذا أراد أن يعنى بمصالح حجاجه عندها. وهو مركز تستحق عليه الغبطة. فالأعمال التي لا تسود بأصحابها حرية بالازدراء. وهو مركز إذا قيس بمركز المطوف عند حجاجه وضح الفرق بين المركز السامي في احترامه، والمركز (الهائف) الذي لا تدعمه إلاّ التوسلات ومحاولات (أخذ الخاطر).
ولقد كان أصحاب السيارات في مراكز تشبه حال المطوفين اليوم.. يوم بدؤوا شركات صغيرة تنافس بعضها، وتحاول كل شركة أن تظفر برضاء المطوفين. أما اليوم وقد توحدت جميع الشركات في إدارة واحدة، فقد أصبحت إدارتهم فريدة في محيطها، وأصبحت سيدة بمركزها عند المطوفين (1) ، وأصبحت تستطيع أن تكتب في لوائحها عبارات من نوع ((يجب على المطوفين)) بدل أن ترجوهم كزبائن وتسترضيهم. وكان من نصيب حسن لنقل حجاجه في ثلاث سيارات لم يتسلمها حتى قضى في (قراشها) نحو 20 ساعة كان يزاحم فيها عند شباك التوزيع حيناً ويفترش الأرض فوق التراب حيناً آخر ليستريح من عناء ما بذل من جهد في الزحام.
ولما تسلم السيارات وبدأ النقل في بيته متأخراً عن غيره من المطوفين الذين أسعفهم الحظ كان حجاجه قد استاؤوا من تأخيره الذي لم يذنب فيه إلاّ الصدفة، وشرعوا يصيحون بكلمات لا يحتملها إلاّ ذليل دون أن تكون له حيلة في المهنة التي كتبها الله عليه.
وبذل ما في وسعه من التوسلات ليرضي الحجاج ويرجوهم حتى قبلوا، وبدأت السيارات تنقلهم إلى عرفات.
ولما أفاضوا إلى المزدلفة ومنى أبت الصدف إلاّ أن تعاكسه فقد عطلت سيارة في الطريق وغاصت أخرى في قطعة من رمل عرفات، فاشتد غضب حجاجه وأساؤوا إليه بكلمات قاسية فاحتملها صابراً. ثم مضى إلى مستودع لشركة السيارات في عرفة يستنجد بها، فرافقه سوء الحظ ولم يجد سيارة واحدة تسعفه لأن السيارات المخصصة لذلك كانت موزعة في أعمالها، فعاد يشكو إلى حجاجه الصدف التي لا حيلة له فيها، ويذكّرهم بالقاعدة العامة المعروفة عن السيارات. فليس في العالم سيارة لا يصادفها العكس. ويرجوهم الصبر ساعتين فقد وعدته الشركة بإسعافه وهي لا تكذب في ما وعدته. وبين لهم أنه إذا أسقط في يده، ولم تستطع الشركة أن تسعفه فإن سيارات الحكومة ستجوس خلال عرفات وتنقل كل من تأخر بها.
ولكن الحجاج كانوا يسمعون أبواق السيارات تضج في كل مكان من عرفة ويرونها تقل غيرهم فلم تعجبهم أعذار حسن، وأخذوا يملؤون الدنيا عليه صياحاً ويسمعونه من قوارص الكلم ما ينبو عنه السمع.
واضطر حسن إلى التضحية التي لا يحتملها بيته فلم ينتظر إسعاف الشركة أو الحكومة، بل مضى يبحث عن سيارة من اللواري حتى وجدها. وقبِل أن يدفع الثمن الفاحش الذي فرضه صاحبها في ذلك الظرف الضيق.
لسنا نرى الحجاج ملومين فيما ضجوا فهم لا يعلمون أن المدى أمامهم يتسع لأكثر من عشر ساعات. وقد كانوا مضطربين بتأثير الحركة الصاخبة التي كانت تضج بها السيارات المثقلة بالركاب من غير حجاج حسن. وليست الشركة ملومة في هذا الظرف على الأقل لأنه ظرف ضيق ولا تستطيع منع سياراتها مهما كانت قوية من معاكسات غير مرتقبة.
أما المطوف فمن العبث أن نتفلسف في شأنه أو نستمع إلى ما يصح من أعذاره، لأن الحياة ما أصاخت قط إلى حجج يهيب بها ضعيف.
ولو استطاع المطوف أن يدعم مركزه بما يسمو بمقداره ويحفظ قيمته كمرشد، ولو استطاع أن يتعفف عن تملق الحجاج ومداهنتهم لأمكنه أن يقف موقف الند من حجاجه ويخاطبهم بلغة المنطق، ويبين لهم أنه لا شأن له بالصدف التي لا تدخل في ما هو مكلف من أعمال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :402  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.