شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(2)
وبدأت قهوة العم سليمان تقفر من روّادها كلما امتدت رقعة الشمس فوق كراسيها، فنشط لجمع الكراسي المبثوثة ورصها في جانب من القهوة. فعثر أثناء ذلك على لفافة محزومة عرف أنها تخص صاحبنا المطوف، وقد نسينا أن نسميه (حسناً). عرف أنها تخصه لأنه وجدها ملقاة تحت الكرسي الذي كان يجلس عليه.
وعبث العم سليمان بطرف الحزمة فتكشفت لفاتها عن أوراق مالية، وأخرى خصوصية؛ فضمها إلى بعضها ودسها في طيات حزامه، ومضى يستأنف عمله في الكراسي.
وعندما انتهى من عمله كان رأيه قد استقر على البحث عن دار حسن، وتقديمها إليه في بيته بعد أن يستوضحه جميع العلامات التي تثبِت ملكيته لها.
واستقبله حسن في بيته بترحاب بالغ، وتسلم ضالته بإكبار عظيم بعد أن ذكر له أوصافها، ثم دعاه إلى الجلوس.
وكان ما ساوره بالأمس في موضوع مهنته لا يزال يشغل تفكيره. فأراد أن يسمع فيه رأياً من شيخ جرب الحياة على نحو خاص، وفي بيئة لها طابعها المميز.
- متى تسمي العمل مهنة يا عم سليمان؟
- إيش تقول؟
- أقول هل كل عمل تسميه مهنة؟
- مهنة! يعني إيه؟ يعني صنعة؟
- إيوه!
- يعني غرضك تسألني. (هو كل شغل يسموه الناس) صنعه وإلاّ لأ؟
- إيوه!
- والله يا ولدي. كل الأشغال خير وبركة! ما دام تعرق فيها! حتى شغل الكناسين صنعة!! ولو أنها كانت صنعة واطية. لكنها أحسن من مدّ اليد!! يا رب يا كريم!!
- نعم.. أحسن.. ولكن مدّ اليد.. يا رب يا كريم.. ما تشوف فيها عرق؟؟
- إلاّ فيها عرق. لكن ما هي صنعة!!
- أنت فين يا عم سليمان.. دوبك تقول كل الأشغال خير وبركة.. وتقول الصنعة هي اللي تعرق فيها.. ودحين ترجع؟؟
- شوف يا ولدي.. احنا ما قرينا في مدارس.. حتى تاخدني بالعباطه. أنا أبويا الله يرحمه ودّاني كتّاب السناري. أيام كان السناري سناري!! وحياة خالقك ما استحملت كلمة واحدة.. رحت هافُّه باللوح في رأسه!! وعشرة ما يلحقوني.. انتوا يا خويا جبتوا لنا المدارس، وطلعتوا علينا بالهرْج اللي ما نعرفه.. على إيه.. بدك تسمع مني.. فهمني هرجك من غير ما تلفِّته! تسمع جواب.. وهو اللي ما يقرى في المدارس ما يعرف يجاوب. أنا أجاوب على عشرة! بس خد مني، وأعطيني!
- أنا أدري يا عم سليمان إنك من كبار سوق الليل.. وإن إللي شفته إنت ومر عليك ما شافه واحد زيي.
- شوف يا واد!! تعرف أيام عمك مكاوي الله يرحمه. كان ما يسوي شيء في الحاره حتى يجمعنا نحنا ستة سبعة أنفار، ويأخذ رأينا.. انتوا بس شايفين الواحد فينا قهوجي دحين! يقول لك عقلك دا تور! والله يا واد اللي احنا شفناه. ما شفتوا انتوا، ولا مرّ عليكم.
- صادق يا عم سليمان.. طيب قوللي شغلك دحين في القهوة صنعة، والا ما هو صنعة؟
- لا والله مو صنعة.. أنا كنت باسط فرن في سوق الليل.. بالك محل مولد علي.. كان فرني وراه في زقاق الجبل. كنت أكسب كثير، ولميت فلوس كتير.. هادي صنعة!! بعدين قالت الدنيا واحدة ونص.. كان هنا عمك سليمان.. وكان هنا الفرن.. الحمد لله سرنا قهوجية. على آخر العمر.
- أنا أقول لك القهوجي علاقة أجاويد عندنا (1) له ثلاثة هلل تعطي له أربعة، وتشوف نفسك أبو علي.. وهو يسير مبسوط اللي زدته هللة فوق حقه.. هادي عندي ما هي صنعة. الصّنعة عندي خد حقك، وهات حقي.. ليش. أنا شحات! تسوى على أبو عرام.. هيا سوي أنت فران، ولا سمكري، ولا بياع فول وترمس.. تقبل أحد يشيل هللة زيادة ويناولك هيا.. قل لي: لأ.
- والله لأ يا عم سليمان.
- هادي هي الصنعة.. أما شغل تشتغله وتستنى أحد يناولك قرش زايد حسنة من عنده تسير هادي ما هي صنعة. زي الفقي اللي يقرا لك سورة، وتعطي له بخشيش.. هذا الفقي ليش ما يبيع بليله في السوق.. زي عم محمد الأعمى اللي جنب السبع الأبيار.. ليش ما يكسب له في النهار ريال والاّ اثنين.. ويقعد سيد نفسه.. بدال ما يروح يقرّى للناس، والناس تشوف أنها ما بتعطيه إلاّ صدقة.
- ها.. أنا فهمت يا عم سليمان.. كأنه غرضك أن الصنعة اللي فيها تسير علاقة أجاويد. تسير ما هي صنعة.
- إيوه والله؛ ما هي صنعة.
- طيب وإيش رأيك في المطوفين؟
- إيش بهم؟
- صنعتهم علاقة أجاويد.. وإلاّ صنعة من الصنع التمام؟
- والله شوف. المطوفين ما لك هرجة فيهم.. ناس من كبار البلد والكلمة كلمتهم، والقول قولهم. وأنا أقول لك: ياما كانت بيوتهم مفتوحة في الحارة للناس اللي زي حالاتي دحّين.. وياما كان لهم فضل على الحارة عندنا.. شوف يا خويا: إحنا ما نهرج في الناس أسياد رقبتنا.. أنت مو تبغاني أشرب شاي عندك؟ هذا فنجاني. بدي أشربه، وأعطى الدرب.. إحنا ناس ما كنا نرفع عيننا في الناس الكبار.. في أمان الله.
- على فين؟ والله ما تندر يا عم سليمان.
والله ما أندر.. أنا رجال راعي درك.. وأنت رجال فاضي.. تبغى تسويني تريقة.. خليك أنت في حالك وأنا في حالي.. وفي أمان الله.
- والله ما تخرج.
ويضع حسن يده في شيء من النقود؛ يحشوها في حزام العم سليمان، كمكافأة تلقاه رد ضالته. فيمتنع العم سليمان، ويلح حسن، ويزيد في الإلحاح حتى يرضى قبولها. وعندئذ يقول العم سليمان وهو يتجه نحو الباب: زي هذا الشغل تقدِّر مو صنعة.. أنا جبت لك الفلوس وتعبت صحيح.. لكن كان لازم أخليها مروَّة، ولا آخذ شيء.. علشان هادى مي صنعة.. لكنّي ولفت على اللي يعطوني في هادي الأيام!. سارت يدي تقبل.. ولو كنت زي أيام الفرانة. هبوبك.. كانت نفسي غير كده، مي والفه على التقبيض اللي في غير محله! نهايته.. في أمان الله.
ويخرج متجهاً إلى الباب وقد أناط طرفاً من إحرامه بكتفه وترك بقيته تنسحب خلفه على الأرض.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :462  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج