الخاتمة |
في شارع يلتوي بالتواء أحد الشعاب في مكة، قامت دار آل عامر سامقة الذرا.. عريضة الأكناف، تنعقد بين يديها دكتان واسعتان، كانتا فيما سلف من مجدها مجلس الخدم من أتباع البيت ومواليه. ويمضي بك في مدخل الدار، دهليز رحب الجنبات، يُسْلِمك إلى سلَّم عريض.. يشعرك بوجاهة البيت وعظمة من سلف من أصحابه وبُناته. |
دلفت ((
فكرة
)) إلى صدر الدهليز، ثم رقت درجاته.. تتقدمها سيدة تتَّئد خطاها وتتسع، ثم تنتقل في طبقات البيت تنقّل عارفٍ قديم العهد به. |
وضربت بكفيها على عادة الحجازيين استئذاناً بالدخول، فأجابها صوت يرحب بمَقدمها، فتقدمت تتبعها
((
فكرة
))
إلى بهو فاخر، تستقبلها عند بابه عجوز في قامة دقيقة منصوبة، وسحنة رقيقة سمحة.
|
وبعد أن حيَّتهما بمَقْدمهما، ودارت أكواب الشاي في صحاف من البلور، ابتدرت السيدة الحديث فقالت: |
- كنت سمعتك تتحدثين عن ابنة لأخيك فقدتها في طريق الطائف، ولم يتصل بك خبرها.. فهل كانت لها ملامح خاصة تعرفينها بها فيما لو رأيتها؟؟
|
- إنها فُقدت في أوائل عامها الثاني، وليس لطفلة في تلك السن ملامح يمكن التعرف بها على شخصها! وبفرض ذلك.. فمن المستحيل أن تبقى محتفظة بملامحها فيما لو وُجدت، فإن مرور اثنتين وعشرين سنة كفيل بكل تغيير في ملامحها وشكلها وتكوين جسمها!!
|
- وإذا تركت هذا جانباً.. أليس في استطاعتي أن أعرف الحقيقة من الملابسات التي تُفقَد فيها ابنة من أحضان أبويها المسافرين. |
- إن الملابسات في ذلك الظرف، كانت كأنما قد أُعدت إعداداً.. فقد كنت وأبواها مسافرين إلى الطائف في قافلة طويلة من أقاربنا وجيراننا وبني عمومتنا، وكنا نزولاً ليلتها في (السيل) من محطات الطائف، وغدونا مصبحين إلى رجالنا وليس للبنت من فرط دلالها قاعدة فيما يختص بركوبها، فهي أحياناً في حجر أمها، وأحياناً في حجر أبيها، ومرات قليلة موزّعة بين شقادف نفر عزيز علينا من أقاربنا، وكان نظام القافلة يجعل شقدف الأُم في الطليعة، ثم تتقاطر العير الخاصة بالأحمال بعده، ثم يأتي على إثره شقدفان لجماعة من بني عمنا من غير الأقارب الذين ذكرت، ثم يأتي على إثره الشقدف الخاص بي وأخي، ويتقاطر بعده غيره من جمال الأحمال أو الشقادف، فيقضي الوضع أن يفصل بين شقدفنا وشقدف الأم بعض جِمال للأحمال والشقادف، ويفصلنا عن أقاربنا بعض جمال لأبناء العم. |
وعندما استوينا راكبين في غدوتنا من السيل، لم يدر بخلدنا أن نسأل عن البنت.. فأمها أحفل بها من أن تتركها، ولم يدر كذلك في خلد الأم أن البنت بعيدة عن حجر أبيها أو العزيزين من أقربائها.
|
وهكذا أدلجت بنا القافلة، وظلت تدلج إلى أن أمسينا في الطائف، فسألت أمها، وبحث أبوها، ودهش أقرباؤها، وكانت النتيجة أن البنت كانت مفقودة!! |
واستأنف أخي عودته في نفر من مواليه إلى السيل، فلم يعثر على أثر لها، وعبثاً ضاعت جهودنا في البحث والتقصّي. وقال أعراب من المارة في السيل: |
- إنهم رأوا نساءً من بادية الطائف كانت إحداهن تقل على كتفها بنتاً لها الأوصاف التي ذكرناها، إنهن كن يردن بها أعشاش المسافرين، قبيل الظهر وبعده، باحثات عن أهلها ثم لا يدرون بعد ذلك عنها شيئاً. |
وقال بقَّالٌ من سكّان محطة السيل: إنه رأى النسوة إياهن، وكانت واحدة ترضعها من ثديها، والأخريات على كثب منها يسألْنَ، وإنه يغلب على ظنه أن النسوة كنَّ من أهالي القرى المجاورة للطائف من ناحية الشرق أو الشمال الشرقي. |
وعبثاً جهدنا في البحث بين القرى التي أشار إليها، فلم نعثر على أثرها.. ولا أستبعد أن المرأة التي كانت ترضعها كانت ترغب في تبنِّيها أكثر من رغبتها في البحث عن أهلها، وإلاّ لما عدمت وسيلة من طريق الشرطة في الطائف، للوصول لأهلها، فلم يكن بحثها إلاّ قناعاً خادعاً، أرادت أن ترضي به عقلها الظاهر؛ أمّا ضميرها.. فقد كان منطوياً على استخلاصها لنفسها وتبنِّيها!
|
وندت عن ((
فكرة
)) آهة طويلة ورأت نفسها تقول: (رحمة الله عليها). |
والتفتتا إليها في دهشة.. وابتدرتها العجوز صائحة: ((أتعرفينها..؟)). |
فلم تزد ((
فكرة
)) على أن ضحكت ثم رجت العجوز أن تمضي في حديثها. |
- ليس لدي ما أمضي فيه، فقد كانت جميع محاولاتنا إلى عبث فاحتسبنا الله.. وليس في اعتقادي أنها ميتة، وإن كان الكثير يعتقد رفاتها سحيقاً حرزاً، يستوي في هذا أبوها وعموم قرابتنا. أما أخوها (سالم) فقد خلفناه يومها في مكة، ولما وافانا بالطائف، تركناه يفهم أنها متوفاة، ولم نسمح لحرف واحد من قصتها أن يتسرب إليه. |
وشعرت ((
فكرة
)) بقلبها يختلج، ومفاصلها ترتهك، وأحست برعدة تشيع في جسمها، وتطغى على صدرها فتضغط على أنفاسها، فتطرحت على نفسها وأسبلت عينيها. |
وظلت على حالها ذلك مدة لم تطل، ثم تحاملت على نفسها، وملكت جأشها، وعادت تصلح من جلستها، وتضغط على مخارج الحروف بين شفتيها وتقول: |
- وإذا تراءت لكم فتاة صادفها ما يشبه هذه الملابسات.. أفلا يمكن أن تجد في نفسها من العلامات الفارقة ما يطمئنكم ويقنعها؟
|
- لدي شخصياً علامة لا تقبل الشك.. فقد كان في إحدى ساقيها ممّا يلي الركبة، شامة مستديرة في حجم غير طبيعي يميل في لونه إلى الحمرة، وأعتقد أن مثل هذه العلامة لا يتناولها الزمن، وإذا تغير شيء من لونها.. فإن موقعها لا يناله التغيير، كذلك حجمها سيبقى فارقاً بينها وبين كل شامة طبيعية.
|
ورأت ((
فكرة
)) نفسها تكشف عن ساقها وتشير بيدها إلى الجزء الذي يلي ركبتها وهي تقول: ((
ألا يمكن أن تكون الشامة قريبة من هذه!!)). |
وكانت شامة ((فكرة)) قد استدارت في حجم أكبر من الحجم الطبيعي، وضرب لونها بين الحمرة والصفرة.. نظرت إليها السيدة العجوز نظرة كانت فارقاً بينها وبين السمت الهادىء والجلسة الوقور، فقد ندت منها صرخة عالية ثم ألقت بنفسها عليها وهي تصيح: |
((
وابنتاه.. إنها ابنة أخي الغالية
))
.
|
ودخل سالم على صوت الضجة.. فإذا ((
فكرة
))، صديقته بين مسارح الوديان ومصاعد الجبال ومسارب الكهوف، تنطوي بين أحضان عمته، وسيل من القبلات ينثال على جبينها ووجنتيها. |
وصاحت العمة: ((
إنها أختك يا سالم.. أختك آسيا من أبيك وأمك.. إنها أختك ولا عبرة بكل ما قلنا لك عن وفاتها
)). |
فما مَلَكَ سالم أن اندفع إليها وانهال على رأسها وجبينها لثماً وتقبيلاً.. ورأى نفسه يجمع أصابعه في أسفل ذقنها ويرفع وجهها في أناة رقيقة حتى يصافح عينيه المترقرقة بدمعة حادة ثم يقول لها: |
- هنا أخوك.. هنا أخوك يا آسيا وليتني أعرف الماكر الذي أطلق عليك
((
فكرة
))
لأحاسبه على إمعانه في التضليل والختل.
|
قالت وهي تحيطه بذراعها: ((
إن الأمر أهون من أن يحتمل المكر؛ فقد كنت طفلة لا أعي اسمي، وكان لا بد من أن يسمّوني
((
رباب
)) وعندما نشأت واكتمل فهمي كنت دائمة التعليق على كل حديث أسمعه، وكنت أبدأ معارضتي دائماً بجملة ((
عندي فكرة
)) ولزمتني هذه الجملة حتى أصبحَتْ علماً عليَّ، ومن ثمَّ ظلوا ينادونني ((
فكرة
)) حتى غلبتْ عليَّ، وأصبحتْ اسمي. |
وتحدَّرت دمعته وهو يضع خده على رأسها ورأى نفسه مرة أخرى ينهال لثماً على جبينها ويقول: |
- هنا أخوك يا فكرة.. أخوك الذي انتظرته طويلاً، وترقَّبته كثيراً، وحلمت به في ليالي الشتاء المقرورة، يقرأ لك من شعر أمية بن أبي الصلت وتقرئين له لزوميات المعرِّي.
|
|