شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(30)
بدت طلائع الشتاء فتعرَّت الأشجار ممّا كان يكسوها من الأوراق، وبدأت تنفح الجو نسمات باردة ثقيلة، فبدأت أرتال المصيفين تغادر الطائف، إلى مكة أو جدة، أو غيرهما من مدن الحجاز.
وشدَّ سالم رحاله مع المسافرين واستوى في بيته في مكة، وعادت سيرته في متجره وأعماله الخاصة إلى ما كانت.. إلاّ وميضاً خفيفاً من الذكريات كان يومض في نفسه بين آونة وأخرى، فيشعر من جرائه بضغط ثقيل على صدره، وحرقة أليمة في فؤاده، لا يلبث بعدها أن يسرّي عن نفسه بما يشغله ويغمر مخيلته بالشؤون المهمة التي تحوطه، وتعود سيرته من صفاء الخاطر وجمال الحياة.
وحلَّ موسم الحج، فضاقت مكة بوفودها من الأصقاع، وازدحمت طرقاتها بهم.. وجاء يوم التروية، فعجَّ الطريق إلى عرفات بأبواق السيارات الضخمة تنقل الحجيج.. وازدحمت وديانه وحواشيه بالجمال المتقاطرة تحمل ركابها في (الشقادف) أو على الرحل، وانتظم سهل عرفات المترامي خياماً لا يوفيها حصر؛ تتشابك حبالها، وتندغم أطنافها أو تنفرج بما يشبه العرصات؛ فيتكتل الحجاج في ظلالها متبتلين خاشعين متجهة نفوسهم إلى الله المنفرد بملكوته، العظيم بقدرته، العفو بفضله:
ربنا ما خلقت هذا باطلاً.. سبحانك!!
آذنت الشمس بغروبها فبدأ الحجيج يقوِّض خيامه، وبدأ المفيضون من عرفات تدلج قوافلهم وسياراتهم في خيوط يفرغ بعضها مع بعض، كأنها حلقات السلسلة تكاد لا تعرف لبداءتها أولاً ولا لنهايتها آخراً.
وأفاض سالم فيمن أفاض تاركاً خيمة رفاقه لهم يقوِّضونها ويعنون بترحيلها، ومضى يمتع روحه بالإِدلاج راجلاً في غمرة المفيضين.. وسحَّت السماء بمدرار هتون، فجأرت الأصوات وتجاوبت أصداؤها من الجبل إلى الجبل، وهرولت قوافل الجمال تزاحم بعضها، ومد الراجلون خطاهم يسبقون الهتون إلى منجى في ظلال (الشقادف)، أو أحمال الخيام، وفاض الوادي بعراة الهجانة من مختلف القبائل العربية يحثون مطيهم خفاقاً إلى بطن عرنة.
وأحس سالم بطرفة عصا تلامس رأسه في رشاقة.. فالتفت ليرى لثاماً يستدير في نصف هلال على وجه يشرق بالجمال وتنطق عيناه بالسحر.. إنها إشراقة ((فكرة))، وإنه محيّاها وقسماتها وعيناها المتألقتان.
رآها تشد زمام ناقتها، وسمعها تحييه، فقفز فؤاده إلى صدره وارتاشت جوانحه وخانه النطق.. فلم يزد أن أشار إليها بإيماءة انثالت فيها آلامه وطغت عليها شجونه.
وأشارت إليه أن يشاركها الركوب.. فكان أسرع من كلماتها إلى عنق الناقة! ثم إلى مستوى الرحل منها، وكانت أخف منه إلى الرديف خلف الرحل. وما استويا حتى أرخيا للناقة زمامها، وتركاها تمد خطاها وتزدلف في غمرة النوق بين الأعراب المزدلفين!
وبدأته الحديث بالسؤال عن حاله، فكان يوجز القول استقراراً لجأشه، حتى عاد إليه هدوؤه، واطمأن وجيبه، شرع يسألها عن أحوالها ويجيب في إسهاب عما توجهه إليه من حديث.
وانتهيا إلى منازل البدو في مزدلفة، فجمعا بين المغربين، وقاما إلى حصواتهما يلتقطانها ثم عمدت ((فكرة)) إلى مبرك الناقة، فارتفقت ركبتها وأرسلت بصرها يسبح في هذا الخضم المائج بمئات الألوف من الحجيج يزدحم بهم مسيل الوادي حول المشعر الحرام.
وأقبل عليها وفي كفه حفنة ممّا جمع من الحصا وقال، وهو يشير إلى حصوة منها جعلها بين سبابته وإبهامه:
- ألا ترين أن شعائر الإِسلام ترمز في كثير من نواحيها إلى معانٍ غزيرة، يغلق سرها على غير ذوي البصيرة من أصحاب العقول الراجحة؟
- لا أرتاب في هذا.. وشد ما يحزُّ في نفسي أن يدَّعي العلم بالدِّين بعض مَن تبلَّدت أذهانهم بالحشو الذي توارثوه دون أثارة من عقل تعينهم على التعمق في مسائل الدِّين وفهم أسرارها.. ولكنه كان بودي معرفة الجامع بين بحثنا وما نحن فيه!
- أريد أن أقول إن المعنى العميق في تكريم الجندي المجهول.. عند أرقى الأمم، يتجلّى بأوضح معانيه في تحقير الشيطان بالصورة التي رسمها الإسلام من ثلاثة عشر قرناً خلت.
الأمم الراقية تكرّم الجندية بباقة من الورد، تضعها على قبر الجندي المجهول، رمزاً لاحترام فكرة الجندية -والإِسلام يهتدي إلى هذا المعنى الغزير قبلهم، فيرسم لمعتنقيه فكرة تحقير الشيطان، في بضع حصوات يرجم بها نصباً شاخصاً.. كرمز للشيطان -وهو في ذلك يشير إلى إهانة شأنه وإذلاله.
- لا جرم أنها حقيقة ترمز إلى فكرة سامية في البحث، ولا جرم أن الإِنسان جميعه، حقائق ترمز إلى مثل هذه المعاني!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :374  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 35 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج