شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(27)
تعالى النهار، وارتفعت الشمس في مدارها من الأفق صاحية، وافترشت أشعتها الحقول والمروج، وانسابت بين أشجار السوسن.. متجهة إلى الشرف الذي ينطرح فوقه، فانبعث من نومه متأثراً بوهجها ووقدتها واستأنف سيره بين مماشي الغياض، حتى انتهى إلى الصخرة النائية فوق حافة الوادي.. حيث جلس وإيّاها مع الراعي، يوم كانت تحدثهما عن عادات الخطبة والزواج، وما يسلس له قيادنا من تقاليدهما، فوقف يقلب نظره في كل وجه من الصخرة.
هنا جلست (( فكرة )) .. وهنا نقرت بأصابعها ودقت بيدها، ومن هذا الطريق أخذت دربها.. في اللحظة التي تركته مع الراعي لتصعد في الجبل! ومضى يصعد خلفها ووثبات الغزال تتراءى بين عينيه كأنها شيء حقيقي، يتواثب أمامه بين الحجارة والصخور في مسالك الجبل! وانتهى إلى ما انتهيا إليه ليلة أن باتا على كتف الجبل، فإذا الصخور صامتة، والمكان موحش، والريح السافية تهب شديدة طاغية. ونظر فإذا النتوء البارز من أضلاع الجبل تتوسده عروق صفراء، وتكسوه أوراق جافة وأطل من حافته على مروج الوادي وغياضه وغدرانه.. فإذا صورة خامدة لا تنبض فيها حياة، باهتة لا يشع فيها جمال.
واستقلته رعدة فاضطربت حواسه، ورجف قلبه، وأحس بدمعة تطفر من مآقيه فتجلَّد، وملك جأشه ومضى يذرع الأرض في خطوات بطيئة ثقيلة يقف فيها عند كل حجر، وفي كل فجوة وعلى رأس كل مسرب!
أيُّها الجماد.. فيمَ هذا الصمت الكئيب، والوحشة الخرساء؟! أيعنيك من (( فكرة )) ما يعنيني؟؟ إنها تذهب في غير عودة، وتتركني في غير أمل.. فإذا ما دعاها داعٍ من الشوق، أو هفا بها ما يهفو بي من نزق للمرور بك فوطِّىء نفسك لخطراتها، واحْنِ على مواضع أقدامها!
وأنت أيّها الريح السافي.. إذا ما صادفتك ترود هذه المعالم.. فترفَّق في هبوبك، وخفِّف من غضبك، ورتِّل على مسامعها، في أناة وخفوت، ما تسمعه يختلج في صدري من لواعج الحب، وما تراه يترقرق في محاجري من أمارات الألم، وما تقرأه في ملامحي من علامات الوفاء للحب الضائع والأمل الذاوي!!
قال هذا.. ثم دلف عائداً إلى المنحدر، وانكفأ يهبط بين الصخور حتى استوى باستواء الوادي، ثم مضى بمضي الجادة على حوافي الغياض حتى انتهى إلى الصخرة التي صادفها عليها أول ما صادفها.. فوقف تلج به العواطف، ثم ترنح كما يترنح المخمور.. لعبت برأسه الخمرة، وخطا نحوها، ثم تراجع، ثم خطا وتراجع، ثم دار حولها يتصفحها من كل وجه ولا يدانيها، ثم مضى في طريقه، وقد سحَّت من جفنه دمعة، وندَّت من صدره زفرة.
وانتهى بعدها إلى الكهف الذي اتّقيا به المطر، في أول ليلة تفارقا.. هنا شدَّت من ذراعه، واجتذبته إلى ما هيأ لها من مكان في الكهف.. وفي هذه الزاوية وطَّأت له من الحشائش الجافة فراشاً وثيراً، ومن هذه الأحجار اتَّخذت موقدها تضرم النار فيه، وتنضج له شواءً طازجاً لذيذاً.
وغمرته الذكريات فهاجت شجونه، وطوَّحت أفكاره، فخيل إليه أنها إلى جانبه تدني إليه فنجان القهوة، يطفو عليها الحباب، وشعر بنكهتها اللذيذة في فمه، وسمع صوتها يناديه: (( إني بنت هذه الجبال العاتية درجت في وعورها، واكتسبت من صلابتها.. ستجدني أبرز للند وأقابل الكفء أجزيه عن مروءته فضلاً وعن خسته مراً، ولست بالمرتابة فيك وقد شهدت نبلك، ولا الخائفة من استدراجك ولو كنت الشيطان ))!!
ورأى نفسه يجيب على ما يسمع: (( إنني أخاف هذا العتوّ، وترعدني المبارزة ولا أجدني اليوم بعد أن ذهلت وانحلّت مشاعري أقوى حتى على الكلمة الحادرة والنظرة العابرة )).
وأدركه الوهن، وانثالت على رأسه الخواطر متشعبة متضادة، واطَّرد به التفكير فذكر أهله وأولاده، وذكر عبثه بحقوقهم وتجنيه عليهم بهذا النزق، الذي لا يصدر عن غير طائش أغواه هوى ضال، وأعمته آمال ضائعة لا يرجو عندها نهاية.
وقال في نفسه: لقد كان أخلق بي أن أحتقر هذا التشبب، وأنفض يدي من أدرانه وأوصابه. وليكن ما يكون!! إنه لا يفل الحديد إلاّ الحديد، ولا يثني عن الطيش إلاّ عزمة جبارة ووثبة قوية ثابتة.
ما علاقتي بامرأة ضالة بأفكارها، عابثة بالمجتمع؟. أهو الجمال أم الجاذبية، أم الفتنة؟ كل هذا هراء إذا قيس بما أتحمله من علل تذويني، وأدواء تضويني، ونزق يزري بكرامتي كرجل، ويعبث بمروءتي كرب أسرة ووالد أطفال.
لأضع حداً لكل هذا ابتداءً من ساعتي.
وسأرى أي رجل أنا!!!
وقام من توّه.. كمن نشط من عقال، ونفض ثوبه فنفض معه ضعفه وآلامه ونزوات نفسه. ودار على عقبه، فاستوى في الطريق يمشي مشية رجل جديد لا علاقة له بأمس الدابر!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :379  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.