شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(26)
قضي الأمر، واختفى من عينيه آخر إشعاع كان يشرق في وجهه، فظل في مكانه جامداً، ثم انطلق بغتة يغدو إلى الحافة حتى انتهى إلى مستواها.. غذَّ بصره في أحشاء الوادي، فلمحها تختفي بين أدواج عالية من العرعر، ثم تنحدر في جرف من أجراف السيل، فندت منه صرخة عالية أمَّل أن تبلغها.. لكنها كانت قد اختفت تماماً، وحال الوادي، بسهوله ومرتفعاته وأدواحه بينهما.. فارتمى في مكانه واستسلم لجفونه وشجونه.
ومرَّت به سيارة من ((جمّالة)) الفواكه.. حسبوه أول ما رأوه مريضاً، فاستوقفوا عِيرهم، ودلفوا إليه يعنون بشأنه، وانطلق بعضهم إلى الغدير، فملأ بعض صحافه ثم عاد إليه ينضح الماء على وجهه، وأعانه البعض الآخر على القيام.. فوقف يتحامل على نفسه، ولكنه لم يحر جواباً، ولم يبدر منه حرف يدل على ما يشكو.
ولاح لهم أنه من غير هذا الحي، وبدت لهم سيما الحضر واضحة في هيئته.. فعرضوا عليه أن يصحبهم إلى الطائف.. إذا كان من أهلها، فأومأ برأسه علامة القبول، وأناخوا بعيراً من جِمالهم، فامتطاه في إعياء أنهكت له مفاصله، والتاح له فؤاده.
قضى ليله وزُلَفاً من الليل في حال من التململ والقلق.. كان مبلبل الخاطر مضطرب الحواس، يستنشق النسيم المعطر بعبيق النبات المزهر، على سيف الوادي، وبين ثنايا المنخفضات فلا يستروح له أريجاً، وتنفسح أمامه حواشي الوادي مطرزة بالخضرة اليانعة، فيغلق فؤاده دونها ولا تتفتَّح نفسه لها.
وأناخت العير عند صخور قائمة على جانب من الطريق، تنحل منها أرض فسيحة الرقعة في جانب، وتزدلف منها في جانب آخر وهدة تصطفق فيها مياه عميقة من مخلَّفات السيول والأمطار، فدلف سالم إلى حافَّتها ونضا عن ثيابه وألقى بنفسه بين أحضانها مدة كانت كافية لتلطف حرارته وانتعاش فؤاده.
وفجأة خطرت له خاطرة جديدة ترك على إثرها الماء وخفَّ ثيابه فلبسها، وإلى رفاقه من القافلة فاعتذر لهم باستحالة مضيِّه معهم، ثم عرج في سبيل آخر، مصعداً في مسالك وعرة.. انتهى منها إلى منحدر يلوي بلية الجبل، ويستقر باستقراره في رقاع فسيحة تكتنفها غياض وبساتين.
استوى به السبيل الآن في نفس الطريق التي جاء منها في الأيام التي تعرّف فيها إلى ((فكرة)). فهذه الرابية التي اختبأ فيها بين النعاج يوم المطر، وهذا بستان العجوز التي احتفت به على أثر الصدمة التي نالته، وهذا الفيء الذي يتراءى من بُعد تحت الأغصان المتشابكة، كان مقعده يوم أرسلت العجوز في طلب ((فكرة)) لتؤانسه وهي لا تعلم عن علاقتها به شيئاً.
ومن هذا الطريق، يستطيع إذا دار مع استدارة المسيل، ومضى بمضيه بين ليات الجبال.. أن يستوي مرة أخرى في البقعة التي صادفها فيها أول ما صادفها، وينعم بذكريات جميلة، مرت به ليلة أن لاذا بالكهف يختبئان فيه من هطول الأمطار، واجتمعا في صبيحتها بالراعي، ثم ارتقيا كتف الرابية ليبيتا ليلة أخرى مفعمة بأشجان الحديث وأفانين الرأي.
وغذَّ في سيره تطيف برأسه الذكريات، كما تطيف الأحلام برأس النائم، ويطغى على نفسه الشجون كما تطغى على الكثيب الهموم.. وسارت به الجادة تلتوي بليات المسيل في ليل نشرت ذوائبه، وتفتحت آفاقه عن نجوم متناثرة.. تخبو وتتلألأ، وترسل إشعاعاً خافتاً لا يكاد يبين الطريق من ثناياه، إلاّ كما يبين من خلال ذبالة ضئيلة رقيقة الحاشية.
وأشرق الفجر على الأفق الفسيح.. حين أطلَّ عليه الجبل الذي باتا ليلتها على كتفه شامخ الذرا، ثابت الأركان، وتراءى له فكان الكهف الذي أظلهما في أول ليلة صادفها واتقيا به من المطر. وكانت قد تثاقلت خطاه، واختلجت ممّا ناله من التعب، وأحسَّ أنه يترنح ترنح المخمور، فمال إلى أول شرف صادفه، واستلقى منطرحاً على الأرض في أنفاسٍ متقطعة وجسمٍ منهوك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :331  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.