(25) |
زلفت الشمس في مدالجها من صفحة الأفق، وترامى إشعاعها على أكناف الجبال ومنحدرات الوهاد، ثم مشت أشعتها في مسالكها من الأرض، حتى افترشت السهل المنبسط على سِعته. |
وكانا في غمرة من النجوى والشجون، لم يستيقظا منها إلاّ على حرارة الشمس وقد غمرتهما وأشاعت في جسميهما وقدَتها.. فانطلقا يعبُران أطراف السهل ممّا يحاذي ضلوع الجبل، ويبعدان ما أمكنهما عن بيوت الشعر المكتظة بالأضياف في سرة الوادي، حتى إذا استوى أمامهما الطريق الخلفي الذي سلكه في جيئته بالأمس، استويا معه، ومضيا يمشيان فيه متجاورين بأجسامهما، متباعدين بما غشي على نفسيهما، وضغط على روحيها. |
كانت ((
فكرة
)) تمشي ورأسها مطرق.. في هيئة المفكر المستاء، وخصلتان من شعرها الفاحم تتراءيان من وراء دثارها الشفاف، وهما متهدلتان على كتفيها الجميلتين، وكان سالم خلفها يتابعها ويداه مضمومتان خلفه وإغراقة من الذهول شائعة في وجهه، وسيال من الخوف يغشى محيّاه، ويضغط على أنفاسه، فيبدو في تهالكه، وتخاذل أقدامه، وما ران على وجهه من الذبول.. كأنه مومياء من عاديات الفراعنة انبعثت تجوس خلال الديار وتمشي بين فدافدها. |
ومضى بهما الطريق في خط يستقيم مرة، ويتعرّج أخرى، وينحني كلّما صادفتهما غياض أو بساتين.. وكان أزيز السواقي وخرير مياهها في البرك الصغيرة.. يشيع في الجو موسيقية عذبة الألحان، جميلة الأنغام، وكان عبير الأزاهير يتضوَّع بين أفواه الشعاب.. فيفعم الوادي أريجاً شذيَّ العطر، جميل الرائحة. |
هبط الطريق بهما إلى وهدة انبجس من شقوقها ماء زلال عذب، فأطفآ وقدتهما من ينبوعه، وتفيآ بجانب أيكة باسقة من أشجار السوسن.. تكتنفهما مروج مخضلة يانعة، ويحفُّ بها نبت مفوَّف الأزهار، يتماوج كلما هفهف النسيم عليلاً رخياً.. ومسَّهما الجوع، وكانا لم يطعما من ليلتهما، فعمدت إلى رغيف كانت تحتفظ به في ثيابها وقطع من الجبن؛ والمربى فأكلا، ثم نثرا ما بقي من فضيلات إلى العصافير، ثم قَدِمَا إلى الغدير فنهلا منه ماءً نميراً، وغدوا إلى مكانهما من الأريكة تنعشهما طراوة الهواء، وتفتح ما غلق من نفوسهما وضغط على أرواحهما. |
وترقرق ماء الحياة في محيّا ((
فكرة
)) وعاد بريقه وإيناسه، وهدأت أعصاب سالم، وأشرق وجهه بالصفاء وانشرح قلبه، وتفتَّحت نفسه للكلام فقال: |
- كلّما فكرت في أنَّ الإنسان هو الإِنسان.. مهما سما به رجحان عقله، وصفاء ذهنه وفهمه للأمور، داخلني من ذلك غيظ شديد، وتمنيت لو عصفت بالأرض عاصفة جاءت على كل العقول الراجحة والأذهان الصافية، فلم تترك على وجهها إلاّ الغفل من خشاش الناس، وإلاّ السذّج من بسطائهم ودهمائهم.. ليخلدوا إلى طبائعهم الأولى.. لا تنغِّصهم عنجهية مفكر، ويستنيموا إلى جهلهم وبساطتهم.. لا يكدرها عليهم قوّال يصوغ الحكمة ولا يعنيها.
|
ما أكثر الذين يعيبون على الناس أوضاعهم، ويسخرون من تصرفاتهم حتى إذا استوى لهم مقام ترفّعوا ترفُّع المدل بنفسه، واعتزوا اعتزاز الغني عن غيره، وظلوا في تصعيدهم لا ينظرون إلى مستوى الناس دونهم إلاّ ليزروهم، ولا يتفضلون عليهم بالكلمة أو الموعظة إلاّ ليهزِّئوهم ويُحرجوهم بها.. كذلك دأب أختي معي أول ما استوى مقامها في قلبي وسما مكانها في نظري..
|
وقالت وقد بان الاستياء في وجهها:
|
- أنا لا أكره فيك شيئاً.. إلاّ هذا التلبيس على نفسك ومخادعتها.. يقول علماء التحليل النفسي: إن الإنسان البسيط قبل أن يتوقَّد ذكاؤه، لا يعرف لأعماله الخاصة غرضاً خاصاً، فهو يتخبَّط فيها كيفما اتفق، ويمضي في جُدَدِها وراء أول سراب يلمع له، ثم لا يلبث أن يندمج فيما مضى، ويملأ مشاعره حتى يقتنع بفخامته وجلاله، ويلبس على نفسه ما شاء له التلبيس والإقناع.
|
هذا الإنسان البسيط لا يستطيع أن ينظر نظرة هادئة عميقة، يحدد بها نتائج أغراضه، ولا يملك من القوة والثبات؛ ما يكبح به أهواءه إذا ضل بها الوهم.. هذا الإِنسان خليق بأن يعيش شقيًّا بأعصابه؛ رهين الغلطة الأولى..!
|
قال وقد شرعت نبرات صوته تبين في وضوح أكثر من ذي قبل: |
- مرت بنا دُمىً كثيرة في الحياة، تعيش بنظرياتها أكثر ممّا تعيش بقلوبها، وتخوض في مسائل من العلم أكثر ممّا تنظر في نفوسها، ولطالما قلنا مراراً: يا أيتها الدُّمى الفارغة من كل مرهفات الحس.. ليست الحياة جميعها نظريات جافة تحلِّلونها، وليس العالم كله كتلاً من خشب تسنده رافعاتكم وتحرِّكه آلاتكم.
|
- وليسوا كذلك أطفالاً يهدهدون أنفسهم، وتلوح لهم قطع الحلوى؛ فينهالون عليها في أعصاب محلولة، ولعاب سائل! |
- سترين أنني أكبر من طفل عندما أزدرد لعابي أصوم عمّا تتبعه نفسي، وأحتسب جهادي لكرامتي.
|
- وتحتسبه كذلك لأولادك وزوجتك.. فإنهم سعداء وخصصت لهم، وسأظل على الوفاء لأخوّتك ما رجع في صدري نفَس.
|
ومد يده يصافحها في حساسية حادة، وعصب موتور، ودمعة حائرة عزَّ عليها أن تطفر.. فجمدت في مكانها في المآقي، فشدَّت على يده بعزم المتهالك، وضغطت على كفه كأنها تطبعها بخاتم الوداع، ثم سحبتها في حنان وود، وولّته ظهرها مصعدة إلى حفافي الوهدة، ثم انطلقت تغِذُّ السير في رأس منكَّسة، وطرف كسير لا يرينُ عن مواضع قدميها.
|
|