شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(24)
كانت تتحدث وفي لهجتها من طمأنينة العلماء وتركيز ألفاظهم.. ما يبدِّد الأحلام في صباها الفاتن، ومحيّاها الوضَّاء. وفي معانيها من العمق والغزارة.. ما يُلهم الفلسفة ويفتح آفاقها.
وكان سالم يستمع إليها وفي صدره وجيب الضعيف الواهن.. ضعضعه الهوى، وحزَّ في فؤاده الأمل الكاذب. وما انتهت من حديثها، حتى تواثبت الكلمات إلى فمه، وتزاحمت المعاني والصور أمامه فابتدرها يقول:
لا شيء أحفل بالغيظ منكم.. معاشر العقلاء والفلاسفة. تأبون إلاّ أن يكون تعقيبكم على الحياة متسماً بالقسوة والجمود، كأن الحياة جميعها في نظركم، صور مادية بحتة يمضي عليها ما يمضي على أحجار الشطرنج، تنتقل بها يد اللاعب من اليمين، ثم يُحيلها إلى الشمال في الأوضاع التي يراها، والاتجاهات التي يختارها.
ولكنها الحياة أعمق من هذا وأبعد غوراً واتساعاً!!
في الحياة هنَّات لا تخضع لقاعدة، وفيها أشجان لا تعرف المنطق، وفيها أهواء، لا ينتظمها سر واحد.
ألم تسكري مرة في حياتك يا أختاه؟ إذا كنت لم تفعلي.. فانظري إلى أول سكّير يُصادفك، وتعقَّبي بوادره وأفعاله وصور أعماله، لتعرفي أنه لا يلزم أن يكون جميع ما في الحياة عاقلاً يمضي بمضي أذهانكم ويمشي مع أوضاعكم المقررة، وفلسفتكم الجامدة.. إنما الحياة حافلة من وراء هذا بشتات من الصور والمنازع.. يأتي السكران والهاوي والفنان والعابث والشاعر والمجنون في أولها، وليس في آخرها حد تأتي عنده نهاية.
فقالت:
- أتعني أننا نعبث عبث السكّيرين، ونهيم هيام الشعراء، ونلغي مسكنتنا من المنطق والفهم.. إلغاءها عند المجانين؟
- لست أعني كل هذا إطلاقاً، ولكني أنفي الحذلقة القاسية، وأن نتجاهل الملابسات ولا نقدرها. ليس في المنطق أن يأتي عرش بلقيس في ردَّة الطرف، ولا فيما يخضع للقواعد، أن يعمل الجن لسليمان ما يشاء، من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات. ولكنه حدث!
لماذا؟
لأن الحياة أعمق من أن ينظمها سر واحد، أو يحدّها منطق مفهوم، أو قاعدة مطَّردة.
- لا نختلف في هذا. إني أرى رأيك في أنَّ للحياة صوراً وأسراراً أعمق من أن يحدها منطق، كما هو الشأن في عرش بلقيس، وأن فيها ذهنيات ومشاعر وأشجاناً لا تمضي مع القاعدة والعقل. ولكني لا أرى رأيك في المضي بهذه المشاعر إلى النهاية التي يستبيح فيها السكّير والشاعر والعاشق لنفسه إرسالها على سجيتها بدعوى أنه مدفوع بنوازع لا تخضع للعقل والمنطق!
للسكّير استفاقة يصحو فيها، وللشاعر والعاشق والهائم والفنان مثلها. وإذا استفاق حتى المجنون انتظمه منطق الحياة.. فإمّا أن يساير المنطق على أثارة بيِّنة، أو يسدر في غيِّه سدارة مَن لا يبالي ما يصنع.
- ألستِ بالأمس تزكِّين الجنون في نفسك؟
- ذاك جنون قاله الناس، ولم أقنع بما يقولون، وما علاقتي بما يقول الناس إذا كنت على أثارة بيِّنة من نفسي؟ وجنوننا اليوم جنون من يسدر في غيِّه دون إثارة أو منطق.
- افترضيني في رأيك مجنوناً؛ ولا علاقة لي بما تقولين، فإني على بيِّنة من نفسي.
- أنت تخلط منذ اليوم.. لا أجد لنفسي مندوحة للقول ضدك، إذا كنت تملك أثارة مقنعة، وبيِّنة واضحة.. فما بيّنتُك فيما تختار؟ ما بيِّنتُك في أن تسدر في هذا الغي، وتمضي مع أهوائك وأشجانك مضي السَّكران؟ ما يمنعك أن تصحو مرة، تعود فيها إلى منطقك؛ لتوفِّق بين ما تسدر فيه وبين ما يتفق ومنطق الحياة!؟
أنا لا أقلوك، ولكنه يساورني في شأنك ما يساورني، ولقد فكرت في أمرك طويلاً، فوجدتك تتشوَّف إلى متعة تضفي عليها كل ما يضفي خيالك من لمعة وبريق، وإنك في سبيل ذلك تودي بنفسك وأختك في مهالك لا قرار لها ولا حدود!
- لعلّه لا يساورك فيما يساورك. أنني أخون الولاء، أو أدنِّس الحب، وأتنزل إلى دركات العابثين، وأطيع فيك منزعاً فاسداً، أو هوى خبيثاً؟
- أنت عفٌّ في نظري إلى حد لا أرتاب فيه.. إلاّ إذا جاز لي أن أرتاب في أخي، ولكنك ضعيف القلب، لا تملك هواك!!
- أتعنين بهذا أن قواي تخونني في حفظ ولائك، وهواي يقودني إلى منزع فاسد؟
- ليت كل ما أخافه هذا -إذن لطمْأنتُ نفسي- فإن في ثقتي بها حصافة، دونها خرط القتاد، ولكن الأمر أعقد من هذا، وأعصى منه على الحل.. أنت يا صديقي أب لأطفال هم أحوج الناس إلى عنايتك، وزوج لامرأة لا يدري إلاّ الله كم تعاني في سبيل هيامك العابث. فعد إلى أحضان زوجك، وقم على عيالك قيام الرجل الشريف لا يثنيه النزق، ولا تعصف بقلبه عواصف الهوى العابث، والتجنّي الطائش.
قالت هذا ثم أومأت إليه إيماءة خفيفة تستطلع فيها رأيه فيما ذهبت، وتستنطق حجته فيما يرى، لكنه كان قد ارتبك، وضاعت عليه مذاهب القول، وشاع في وجهه على خديه اصفرار المرضى وذبولهم.
انطلقت مخيلته انطلاق الشاعرية الهائمة، تبحث عن كلمة يصوغها، أو جملة يبهمها، أو رأي يعالج به موقفها الحازم، فلم ترجع إليه بطائل، ولم تسعفه بحرف واحد يلفظه.. فتضعضع وتخاذلت قواه، وتراءت له شواهد الفراق مبثوثة حوله، فأجهشت مآقيه، وأحس بدمعة تطفر بين أهدابه، فمال بعينيه على كتفه يمحو أثرها أن تنم عليه!
فاقتربت منه في حشمة، ومرَّت بيدها على رأسه في حنان واضح، وقالت: ناشدتك الله ثم الأبوة البارَّة بولدك، ورباط الزوجية الذي يربطك بأهلك إلاّ ما أعرتني عقلك، وعلمك، وحكمتك ساعة واحدة.. ألست تعيب في الرجل العادي نزقه وضعف نفسه، وتخاذله عن قيادها إلى السبيل السويّ؟.. فما بالك به وهو في مثل حجاك وعلمك وسمو تفكيرك؟؟
إنني أجلُّك عن خداع نفسك وإيرادها موارد الهلاك، وأنت من أعرفُ عقلاً واتِّزاناً وتفكيراً.. عد يا صاحبي إلى نعيم بيتك، وتمتع برغيف طازج على خوانك بين صِبيتك، ودعني بعيداً عنك أطوي نفسي على صداقتك الخالصة، وذكرك الجميل، وثق أنني ما نأيت أحفظ للجميل، وأحفل بذكرياته الخالدة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :360  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج