(23) |
وتبلَّج الفجر فانفلج معه قَدٌّ ممشوق، يخطر في قوام ناحل، وثوب أبيض ناصع.. ملفَّعاً بخمار طويل الردن، عقد طرفه في رأسها، ونشط حول عنقها، وترك الطرف الآخر يجرجر وراءه صغار الحصا في خشخشة خافتة كأنها وسوسة الحب في شغاف القلب. |
وانطلق قائماً يحيّيها ويبسط يده في احتشام لمصافحتها.. فأغرق بصره وجه يشرق بالفتنة.. في سحنة ضامرة أشبه ما تكون بسحنات الشعراء والفلاسفة، ومحيَّا جهار جذَّاب تشعُّ فيه عيون نجل سود الأهداب طوالها، وثغر ينفرج عن بسمة كأنها تعويذة السحر، فترامت نفسه عليها، وأحسَّ بحافز يدفعه إلى أن يطويها بذراعه، وينهال على ثغرها تقبيلاً ولثماً، ولكنه تخاذل وانحلَّت عراه، وبدرت من لسانه فلتة سمعت صوته يتهدج بها: ((
والله لا أفعل.. وإنه لأخلق لهذا النَّفَس الطاهر أن يتنسم في أجواء نقية لا يشوبها رجس أو حرام
)). |
صافحت أذنها هذه الظنة، فعلمت أنها صدى هواجس في النفس، ونظرت إليه نظرة طويلة ناعسة، فياضة بالحنان ثابتة، تنطق بمعنى العتب والرثاء والعزم، والإِشفاق والصرامة والودّ في آن واحد، فخالجه من ذلك ما خالجه من خوف، وشعر أنه أمام نظرة زاخرة بمختلف الشجون، وأنه منذ اليوم أمام سريرة تضطرم بأحداث جسام. |
وتغافلت هي عمّا بدا على قسمات وجهه من نبوءة، وبادرته الحديث تقول: |
- ما أكثر شقوتنا بأنفسنا في هذه الحياة، أترى آلامنا فيها، وأكدارنا ومتاعبنا!.. إنها من وضعنا وضع أيدينا، إننا نعمد دائماً إلى ما ليس في أيدينا، فنضفي عليه كل محسنات الحياة ومغرياتها، ونجعل منه مثلاً أعلى لما نطمح إليه ونتطلَّع.
|
ولو عقلنا لاستطعنا أن نفهم أنه ليس فيما يغرينا من هذه المحسِّنات إلاّ ما أضفاه خيالنا الواسع، وما وشَّاه خداع النظرة البعيدة من لمعة وبريق.
|
يقولون السعادة.. ثم يتطلعون إليها، ويتشوَّقون إلى منالها!! فهل شهدت بربك سعيداً سُرَّ بها واطمأن بنوالها؟ |
في المسألة إذن أمران: إمّا أننا لا نشعر بما ينالنا منها، أو أننا نشعر، ولكننا لا ننال، وفي الحالين تغرير، وفي كليهما تكليف وتعذيب.
|
ينزعني نازع إلى التغلغل في أحشاء غابة، أو التصعيد في مسالك جبل شامخ، أو الهيام في شعاب ضالة، وتهفو نفسي إلى ذلك، بما تضفيه من خيال على هذه المتعة، وما هو إلاّ أن أتغلغل في الغابة، وأتفيأ من أدواحها ظلاً وارفاً، أو أصعد في الجبل حتى أنتهي منه إلى القمة، أو أهيم في الشعاب، وأجول بين هضابها ووديانها، ثم أقف هنا أو هناك، لأرى مكان المتعة فأجدها.. ولا أجدها. أجدها في لغة الأرقام والمساحات، لأن ما سلكته إليها كان مقدَّراً بالمتر والسنتيمتر، ولا أجدها.. لأن ما أضفته عليها من لمعة وبريق كان من رتوش الخيال. |
وتصافح عينُك لوحاً زيتياً، أبدعه فنان ماهر، فتصافح روضاً أريضاً يتسلسل الماء في حواشيه، وظلاً سجسجاً يُصارع النور على عشب مخضل أو يعكسه خيوطاً صفراء على جدول رقراق، فتتمنى لو وسعك أن يكون لك في مثل هذا الروض قصر، وكنت تشرف من قصرك على مثل هذا الجمال الممتع. |
وليس فيما تمنيت أكثر من أن يواتيك ظرف.. فإذا أنت في النافذة.. وإذا أنت مشغول بخاطر في نفسك عن الأرض والسجسج لا ترى في الخيوط الصفراء والجدول الرقراق أكثر ممّا يراه المزارع في مناظر مَلَّ تكرارها، وسئمت نفسه استقرارها على وتيرة واحدة وشكل واحد! |
إذن، فما هي السعادة؟! وأين مكانها من مناحي الحياة؟
|
إنني شخصياً أرى أنها (رهين تفسيري) بهذا أُعرِّفها ولا أزيد.. أما مكانها فهو في حدودي، وعند متناول يدي.
|
السعادة.. تصوير وافتراض أكثر منها حقائق مقررة بحيِّز أو حدود.
|
والسعادة.. أشباح تصطنعها أحلامك، وتضفي على أجسادها العارضة ما يحلو لك من بريق حتى إذا ران الكرى عن أجفانك تقلّص كل أثر لما أضفيت وما وشَّيت.
|
ما يمنعني إذن أن أفترضها في حدودي، وأضفي عليها في هذا الحدود كل ألوان التلميع، فأنا سعيد بالغنى والثروة، لأنهما قواما الحيثية الوجيهة، وسعيد بغيرهما، لأني في حصانة من جميع المواصفات الثقيلة التي تقتضيها الوجاهة! |
وأنا سعيد بتبريزي على لدَّاتي، وسموِّي على مراكزهم، وأنا سعيد بغير ذلك لأني في نجوة ممّا يترتب عليه التبريز والتفوّق من رسميات زائفة؛ تغلني وتمنعني من المتعة الروحية الخالصة.
|
أنا سعيد بما تحدَّر إليَّ من مجد الآباء، وعراقة أنسابهم.. لأني في المكان المرموق بالتجلَّة والتعظيم، وسعيد بضِعة حسبِي.. لأني أمام فرصة مهيَّأة، لتأسيس مجد أضع لبنته بيدي، وأورِّثه أحفادي.. تِركة غنية بالجاه والحسب.
|
أنا سعيد بما اكتمل لي من عافية في جسمي، وقوة في بصري، وسعيد بغيرهما.. لأن قوة معنويتي لا تعد لها قوة.. لأن فقدان بصري نعمة حالت دون ما يكدرني في الحياة ويسوؤني.
|
أنا سعيد بقرب الحبيب ووفائه، وسعيد بهجره وبعد مزاره.. لأني في الهجر أمتحن ثباتي، وفي بعد المزار مندوحة من الاستغراق في عبث ضال ونزق طائش.
|
|