شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(21)
كان تائهاً في بيداء واسعة من الخيال.. كان دوي الطبول، وترجيع الأنغام، وتنظيم المقاطع، وسلامة المعاني المرتجزة. قد نقلته إلى غير عالمه، وتركته ((فكرة)) حائراً في فدافد لا نهاية لها من الخيال، فلم يفطن إليها وهي تخترق الصفوف حتى تحاذيه، ثم تضع يدها في هون على كتفه! ولمّا فطن إليها، كانت قد قادته في رفقٍ إلى خارج الحلقة، ووضعت يدها في يده تحيّيه.
ماتت الكلمات على شفتيه، وغاصت المعاني في فؤاده، ومشت في مفاصله رعدة حادة لم يتمالك معها الوقوف على ركبتيه. فانخرط على الأرض في إعياء وتخاذل، وعالج الكلام فلم تطاوعه شفتاه بغير ألفاظ مشوّشة تكسرت في حلقه.
وهالها أمره، ولم تفهم سبباً واضحاً لما طرأ. فعزت ذلك إلى وكسة تنتابه من ألم أو مرض. وقالت: وهي تمر بيدها في رفق على جبهته: أتشكو من شيء؟
فبدا كأنه يصحو من حلم، ويستفيق من سُكر، وعاد يستجمع قواه ويستعيد نشاطه، وشعر بالمعاني تحضره والألفاظ تسعفه فأشرق محيّاه، وفتح فمه بالكلام فقال:
- (( فكرة )) !! ما قيمة العلم بأسره إذا كان لا يلمس الناحية السلوكية في صاحبه؟. فيفيض من إشعاعه عليها، وتنير جوانبها وآفاقها؟
والفلسفة؟ أهي إثارة من المنطق السليم، والتفكير الحر تمحِّصون بها حقائق الحياة، وتنتصرون فيها لنواحي العقل؟؟. أم هي تعلاّت وعلل تزجون أوقات الفراغ، وتحاولون أن تدلُّونا على وجودكم!! وتثبتون أسماءكم في ثبت المفكرين والعقلاء!!
ثم التهذيب!! التهذيب ما قيمته في الحياة؟ إذا لم يتناول غرائزنا الوحشية الأولى بالتشذيب، فيحيلها إلى مشاعر حسّاسة تحس وتشعر وتتقد وتتألم؟؟
(( فكرة )) !! ما في الحياة إلاّ الزيف، وإلاّ البهتان والتضليل. وإن طغيان الحاكم بأمره كعنجهية العارف بدلاه، والمدل بجماله سواء بسواء!!
(( فكرة )) !! إذا أنحى مثلُك باللوم على طغيان الطاغي فليس في الأمر أكثر من فرصة تهيِّئك لتحتلي مركز الطاغي المعتز بجاهه، أو المدلل بجماله. فإذا أنت تمثلين الدور إياه، وتؤدين الأداء نفسه الذي كنتِ تنكرينه على الطاغين والظالمين!!..
(( فكرة )) !! ما كان أبو الطيب شاعراً كآحاد الشعراء، وإنما كان معلّماً لا يشق غباره عندما يقول:
والظلم من شِيَمِ النفوس فإن تجد
ذا عفةٍ فلعلّه لا يظلم
كان سالم يتحدث وفي صوته نبرات اليأس، وحركات الملتاث.. وكانت ((فكرة)) تصغي إليه مأخوذة بحماسته، مندهشة له.. فخيِّل إليها أنها أمام شيء جديد استحوذ على عقلية صاحبها وآمن به وجدانه؛ وأنها منذ اليوم متَّهمة أدبياً في نظره بما لا يتفق ومُثُلها العليا في العلم والأخلاق.. فكبُر عليها أن تتَّسع بينهما مثل هذه الهوَّة، وأن يقوم بينهما مثل هذا الخلاف على قاعدة من سوء الفهم والْتواء القصد.
جزعت لهذا الخاطر، ونظرت إليه ساهمة الوجه ملتاعة ثم قالت:
- لا تدري كم تسيئني بالتوائك فيما تتحدث؛ وأنت اليوم تروّعني إلى جانب ما تسيئني، فلو تفضلت فكنت أوضح من هذا لاختصرت الطريق، وهوَّنت علينا كلينا المشقَّة، وانتهيت بنا معاً إلى نهاية سافرة.
- لا سفور بعد اليوم ولا اختصار! كفانا عبثاً بالألفاظ ومدلولاتها، والمعاني وما يُفهم منها؛ وكان الأخلق ونحن ننعي على المزيفين زيفهم، أن نسمو بأنفسنا عما نعي ونعيب، ولكنه أسلوب الحياة.. في الحياة مَن ينعاها ويتنكر على أصحابها، ويرسل الصيحات مدوية، والاحتجاج صارخاً، حتى إذا انقلب الوضع، ودارت دواليب الحياة بالفريقين، وصادفت المتنكرين مثل المُلابسات التي كانت تُلابس غيرهم عادوا إلى مثل الزيف الذي أنكروا. حذوك القَذَّة بالقَذَّة، ورجعوا إلى مثل العيوب التي عابوها، ونسوا جميع المُثل التي كانوا يدْعون إليها، والآراء التي ينادون بها.. باسم العلم أو الفلسفة أو الأخلاق!
- ولكننا لا نتفاهم وأعصابنا تملي علينا وتتحكم في أسلوب حوارنا.. ما يمنعك أن تشير إلى ناحية الزيف في حياة مَنْ مثلي، لتعرف ما إذا كنتُ عنيدة أُمعن في تضليلي وعبثي بالألفاظ، أم أنه شيء جديد لا عهد لك به في حياة الزائفين الضالين.
- أنسيت أنني كنت على مائدتك من أيام، وأننا بتنا متفقين على الارتحال من الغداة إلى هذا البيت، وأنني أصبحت لأجد في مكانك أرضاً يباباً، وصعيداً خالياً، لا تُطمئنني إشارة تتركينها، ولا كلمة تهدينني فيها إلى سوائك.. إنها الأنانية أيتها الأخت الصدوق؛ وإنه الغرور ينفث في العَقُد..!!
- وإنه..
- إنه العلم الضال، والدعاوى العريضة في التديِّن والسلوك.
- وإن شئت فقل: إنه العصب الحاد والمزاج المتوتر، وإنه أسلوب الخطابة لا يسلس للمنطق.. وإنه قبل هذا أو بعده جنون الهيام، وتفكير الملتاثين من العشاق والمغرمين!!
جئني بعاشق واحد لا يلتاث، وتضطرب أعصابه، لتقيم الدليل على أنك تعيش منذ أحببتني خالصاً لمنطقك، لا يشوبك ما يشوب المرضى في عقولهم والملتاثين.. ليتك تدري أن الأمر أخصر ممّا أسهبت، وأهون ممّا شددت.. وأنني غدوت على شأني بحافز ملحٍّ مستعجل، وأني تركت مكان الكلمة التي تطلبها صفحة ضافية، واعتذرت فيها بما دفعني من أسباب، وجعلت بيني وبينك موعداً نتلاقى فيه في هذا البيت.
- لم أتسلَّم شيئاً!
- إنني وضعتها في يدٍ أمينة موثوقة، لتُسلَّم إليك في الغداة، فإذا صادفتها ظروف خاصة خرجت على طوقي، وما رسمت، فالذنب ذنب الظروف، ولا جريرة لي.. أمّا أنت ففي مكانك لم تبرح الخطيئة بما تسرَّعت، ولم تعد الإِثم بما تجنَّيت عن غير روية أو بحث!!..
قالت هذا في نَفَس مضطرب، وألفاظ لا تكاد تطمئن مقاطعها.. فقد كانت تعلم أنه يعوزها الدليل الحاضر على صحة ما تذهب إليه، وما علمت أن المصادفة التي خرجت عن طوقها بالأمس لتلوي بقصدها.. عادت اليوم تخدمها في أدق ساعات الحاجة، وأنها مثلت بين يديها في شخص (سليم) الأسود، تنبىء عنه صرخاته وسط الضوضاء والجلبة.. باحثاً عنها، فالتفتت إليه تناديه.
- هلم يا سليم.. متى وصلت أعمامك؟
- إنهم الساعة يترجَّلون عن جِمالهم، وقد تركتهم في طلبك لأنك أمَّنْتني على الورقة التي أمَّنتني لهذا السيد.. وقد داهمنا ليلتها سيل طمي على مشارف جيران لنا، فخرجت من توِّي فيمن خرج منهم، نبغي مهابط السيل.. وعندما عدنا في أصيل اليوم الثاني لم أجد أثراً له ولم أستدل من أحد على وجهته.
كانت عبارات الأسود تتدفق من فمه.. ويده تعالج عقدة في كمِّه، برزت من طيّاتها لفافة كبيرة قدمها إلى ((فكرة))، فما زادت أن أشارت إليه بتقديمها إلى سالم فأخذها هذا بيدٍ تتخاذل، ونظر إليها وإلى الأسود بطرْف كسير، ثم أطرق ينكث الأرض بأطراف الصحيفة في ذبول وصمت.
لم يقوَ على تسديد عينيه فيها، ولم تسعفه كلمة بالنطق ليعتذر إليها أو يقول شيئاً.. كان أشبه بعاصفة هاجت فدمدم هزيمها، ودوى إعصارها، وثار غبارها، ثم همدت فجأة فلا تكاد تسمع لها نأمة أو حساً!
كان ينقل عينيه من المارة إلى المشاعل حوله، ومن حلقة الرقص، يتواثب فيها اللاّعبون إلى مشرب القهوة صفَّت عليه الأباريق النحاسية، يتحاشى بذلك أن تلاقي عينيه عيناها.. فأدركت معنى سهومه، وتخاذل نظراته؛ وأشفقت أن تجهز عليه، ورأت أن تحيل عنه إلى أن يسري عن نفسه، وتنحل ضائقته.. فاعتذرت له بالغياب في بعض أعمالها على أن يجتمعا مع الفجر في مجلسها من هذا المكان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :362  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج