(19) |
وأسلمته القرية إلى سهل ينبسط أمام تلالها في رقعة واسعة يضرب في أحشائها مجرى السيل في طمأنينة ولين، وتقوم على أكنافها، على مدى البصر، قمم عالية من الجبال، تحتضن بعض البساتين بين قيعانها، وترفع بعض المنازل على أكتافها فتبدو كأنها حارسة لما بنت في القيع. |
وعرج به الطريق عن مستوى السهل، إلى مدخل صخري بين سلسلتين من الجبال، ثم هبط به إلى دروب تغشِّيها أشجار ((
السَّلم
)) تتلَوَّى في معارج وعرة، ثم تطمئن بين تلال متناثرة على حفافيها، وصخور قائمة أو ماثلة بين جوانبها، تنحدر منها قطع ملساء.. فصلت عنها في عناية، فبدت كأنما صُبَّت في قوالب بأيدي أمهر الفنانين، واستوت سطوحها كأنها نماذج لصنّاع أتقنوها، في أشكال هندسية عديدة، وتركوها شاهدة لما أتقنوا. |
وعرَّج به الطريق، بعد لأْيٍ، في أخاديد تجمعت فيها مياه المطر، فخاضها بين عساليج تتدلى على حفافي الماء، حتى برزت به إلى درب موطأ من وراء بستان محاط بسور مرتفع من الطين النَّيْئ. |
وكان الجوع وطول الطريق قد أخذا من نفسه مأخذهما فمضى في ليّته مع الدرب متهالكاً، حتى تكشَّف له الجانب الشرقي من الحائط، عن باب مفتوح على مصراعيه.. رشت أرضه بالماء، وقامت على جانبه مصطبتان مفروشتان بأنواع من الفرو الثمين. وجلس على حافة إحداهما شيخ من الأعراب، في وجه مغضوْضن ضامر، ولحية طويلة شعثة، وجبهة عالية مرتفعة.. يطالعك منها سمو المحتد وعراقة الأصل، في بشرة لفحتها الشمس، وجبين غضَّنه تقدم السن وطول عهده بالحياة. وما إن سلَّم حتى انتصب الشيخ واقفاً في قوام فارع، وحيّاه بوجه مشرق، وديباجة لطيفة، ثم دعاه إلى الجلوس، فجلس منهوك القوى، فمال إليه يلاطفه ويحييه. |
وكان في حالة من الوعث والرثاثة، وفي اطِّراد نَفسِه من التعب، ما جعل الشيخ يزيد في إقباله ويعطف بكليته عليه. |
وانطفأت الذبالة الرقيقة الباقية من مصباح النهار، وانتشر الظلام في حواشي الأفق، وزالت ذوائبه على التلال والجبال، وأقبلت قطعان من الغنم تنحدر من هضاب مخضلة في طرف من الوادي، يقودها الرعاة إلى حظائرها في مرج منحدر من جانب البستان. وتحرك الشيخ للصلاة، وأمر لضيفه بالوضوء، فأسرع إليه خادم كهل يحمل إبريقاً من الفخار وسجادة من حصير مجْدولٍ، بسطها للضيف، حتى أتم وضوءه وصلاته. |
ومضيا معاً في طريق جانبي إلى جوار البستان.. ينتهي إلى رحبة صغيرة، ثم صعدا سلّماً من الخشب، يصل إلى غرفة واسعة نظيفة فُرشت أرضها بالبسط المجدول من الصوف الناعم، وزُيّن صدرها بسجاد عجمي، وتناثرت في أركانها المتكآت من القطيفة، فتطرَّح الضيف على نفسه بجوار إحداها، وقام الشيخ ينادي من كوة صغيرة على خدمه، يلتمس لضيفه العَشاء. |
وحمل الخادم الكهل إليهم مائدة حافلة بالفطائر الدسمة، واللحم الطري، فتفتَّحت نفس الضيف على الزاد.. والْتهمه التهام الجائع، وسرَّى عن نفسه إقبال الشيخ عليه وميله إلى إيناسه، وارتاح لمثواه في غرفة منشرحة نظيفة. |
وأقبلت فناجين الشاي كأنها أكواب من لجين يلمع فيها لونه القاني، فأقبل عليها يستشفها في نشوة المخمور.. أذواه الصدي، وأودى به طول عهده بالطعام والشاي! |
ودار الحديث في أشياء كثيرة.. حتى جاء على ذكر الزفاف، والحفل الذي سيقوم بجوارهما في القرية المجاورة، وعلم أنه سيكون مساء الغد. |
وبات في ليلة مريحة، وتنفس الصبح.. يتضوع الأريج الشذيَّ في نفحاته، فقام إلى طنف يشرف على الأودية المتموجة بالخضرة، والزهر، من ورائها مرج مخضل، متصل بالجبل من إحدى نواحيه، وبحائط البستان من ناحية أخرى، حيث قامت حظائر الماشية مسقوفة بأعواد الذرة اليابس، وأرسل نظره.. فإذا سحابة تسحب ذيولها على رؤوس الدوح وقمم الجبال، وقطرات من الغيث تسَّاقط على المرج، فيعبق عبيره ويملأ الجو بفوحه العطري، فيتنسم ملء رئتيه.. لتعود إليه أنفاسه منتظمة. |
ودعاه الشيخ إلى الصلاة فصلَّيا معاً، ثم استأذنه للرحيل فأذن له، على أن يعود إليه ما سمحت الفرصة وأتاحت. |
|