(18) |
ومضت ساعة.. انصرف الحديث بعدها إلى شؤون كثيرة، ومُدَّت جفان الثريد، فطعم القوم وانصرفوا.. ولم يَبْقَ في المكان إلاّ سالم يؤانسه (ابن الشيخ).. أما ((فكرة)) فلم يبدُ أثرها! |
وما أن تناصف الليل حتى استأذن (ابن الشيخ) في الذهاب.. متمنياً له طيب الرقاد، فشيعه شاكراً، وعاد إلى مكانه يحاول النوم فيجفوه، ويخادعه فيعمد في البُعد. |
تمثلت له كل الحوادث من أول يوم صادفها.. إلى آخر يوم أسلمته الطريق، ليزور أهله في الطائف، على أن يلقاها في جنوب الوادي، ومرّت متتابعة أمامه الأيام العصيبة التي قضاها في الطائف بين زوجه وأولاده في انتظار أوبته، ثم أوبته مسوقاً بدافع لا يملك فيه نفسه، ثم ما عقب ذلك يوم الغار، وما صادفه في أحضان السوائم، وما قاساه من صدمة سقفه! وما تلا ذلك جميعه من رؤى وصور كانت تتتابع في مخيلته تتابع المناظر في الشريط السينمائيّ فتقضُّ عليه مضجعه، وتبلبل أفكاره، وتتركه يتململ تململ مريض ألهبته الحمّى، ومشت رعدتها في مفاصله وأعضائه، وشقَّ عليه أن يستخذل لهذه الصور، ويتململ لآلام الأرق، فترك مكانه إلى باب الغرفة.. فأطل على أفقٍ نائم في أحضان الطبيعة.. تتراءى في حواشيه نجوم خافتة الضوء كأنها بصيص ضئيل من آمال البائسين في دنيا الحياة. |
فاستند إلى حائط مهدم عند بابها، وراح يسترسل في هواجسه وأفكاره. |
قال لنفسه: ليس، فيما أُساق إليه اختيار، لأنني لا أختار لنفسي هذا التبلبل وهذا الشتات، وليس فيه اغتصاب لأني مسيطر حتى هذه اللحظة على أعصابي.. وهي بدورها تنقل خطاي إلى ما أمشي وأتنقل، فأي معنى دقيق بين هذا التضارب؟ وأي فلسفة في هذا التضاد؟!
|
إن الأمر لا يحتمل النقيضين.. فإمّا أن أكون مختاراً لما أسعى إليه، من تبلبل وشتات، فأكون كمن سعى إلى حتفه بظلفه، أو إنني مسوق إليه مدفوع غير مختار.. فأنا إذن سائمة تسيِّرها عصاة الراعي في أي اتجاه شاء!!
|
إن كان الأول، فها أنا حازم أمري من هذه اللحظة على النكوص والعودة، وإن كان الثاني، فسأمتحن السيطرة على نفسي، والهيمنة على أعصابي. |
وقام من فوره ملتهب الحواس، معتزم العودة، فخانه الهوى واستعصى عليه المراد، ورأى قواه تنحل، وإرادته يصيبها الوهن والفتور.. فعلم أنه صريع الهوى، ملتاث منذ اليوم، وأنه رهين أسير.. فاستطار عقله، وجن جنونه، وتمنّى لو تردى من شاهق، فختم حياته وأسكت أنفاسه. |
ومضت عليه ساعات لا يعرف عددها، كان في أثنائها نهب الحمى فريسة الألم.. حتى أطلت ذكاء من مخدعها وراء القمم العالية، فهبت النعاج من مرابضها، ودلفت الفتيات يحملن القرب إلى الغدير، والفتيان يسوقون السوائم إلى المراعي في مهابط السيول، ومرتفعات الوادي.. قام يتحامل على نفسه إلى الناحية التي فيها الغدير، وتريث حتى خلا مكانه بالأمس، فوق حافة، فأخذ مجلسه منها وغاص إلى ساقية في الماء، وبدأ يغسل رأسه ويديه وأطرافه كأنه يطفىء لهيباً يستعر في أوصاله! |
وتلطفت جذوة الحمّى بتأثير برودة الماء، فعاد طريقه إلى الممشى المتصل بالربوة، ودار بعينيه في السهول المترامية على حواشيه، لعلّه يعثر على أثر (فكرة)، أو يجد مَن يدلّه على مكانها.. وخيِّل إليه أن السابلة على طول الممشى، والفتيات على حوافي الغدير، والفتيان في ثنايا الغياض، والرعاة بين أكناف الروابي؛ يسارقونه النظر، ويتطلعون إليه في شيء من معاني الأسى والأسف!! |
وطرقَ سمعَهُ حديثٌ كان يجري بين اثنتين من الصبايا، تردد فيه اسم ((فكرة)) و (ابن الشيخ)، فاقترب حتى حاذاهما وسمع إحداهن تقول لأختها: |
- إن (ابن الشيخ) اصطحب
((
فكرة
))
إلى بستانها خلف الوادي ليُطلعها على ما أحدثه من غرس.
|
فرأى نفسه يدنو منها، ويسألها عن المسافة إلى البستان، ومدة بقائها في العادة إذا ذهبا هنالك.. فعلم أنهما لا يبرحان أن يعودا من يومهما قبل أن يظللهما المساء. |
وأخذ طريقه إلى القصر القديم، فالتقى على بابه بصبية كانت تنتظره في يدها صحفة عليها شيء من الطعام، وضعتها أمامه على حافة النافذة أول ما رأته، وعادت أدراجها دون أن تنبس.. فعزَّ عليه أن لا تصله إشارة من ((فكرة)) عن وجهتها، وأنه يُعنى بطعامه أكثر ممّا يُعنى بروحه. |
ومرت الساعات ثقيلة بطيئة تملؤها الوحدة والضيق، وتوحشها الأفكار السوداء الكاشفة، والقلق العارم المضطرم. |
وتعالى النهار فتعالت معه الشمس، ونشرت حرارتها على قنن التلال، وشعاب الجبال، وتقحَّمت نوافذ الغرفة وبابها الوحيد، فأحس بوقدتها تصطلي في جسمه المحموم، وشعر بكيانه يتخاذل.. فتهالك على نفسه مكبوباً على الأرض، وغذَّ في غيبوبة عميقة. |
ومضت ساعات لا يعرف عددها؛ تنبَّه في أثرها على صوت الصبية تناديه حاملة إليه صحفة الطعام، فتذكَّر أنه لم يتبلغ من يومه، وتذكّر أن بقاء الصحفة مفعمة بالطعام عنده؛ مدعاة لكل حديث، فعمد إليها، وراح يفرغ محتوياتها في الأرض خلف النافذة، ويسلّمها الإِناء. |
وراود نفسه على لقمة يقيم بها أوده من طعام الغداء فمجَّها فمه، ولم يستسغ طعمها فتحامل على نفسه. وغدا إلى الغدير، فخلع ثيابه، وأسلم نفسه إلى مائه البارد.. يطفىء ما توقَّد من جسمه، واستمر في حنايا أضلاعه! |
وخُيِّل إليه أن في بقائه في القرية تعريضاً بهوانه، واستثارة لقصة غرامه، ولوكها في الأفواه، فعقد عزمه على تركها من ساعته، وأن يمضي في طريقه إلى أصحاب العرس في شمال الوادي.. فقد بات على كثب من ليلة الزفاف، ولا معدى من لقياها هناك، ووقوفه منها على بيِّنة يفصل فيها أمر نفسه.. فليس في استطاعته أن يصدق الود لامرأة ليس لها مثوى، ولا لأفكارها قرار، ولا أن يبقى فؤاده مرتع أهواء ضالة وأمانٍ ضائعة!! |
وسدد خطاه أول ما ترك الغدير إلى الطريق العام للقرية، والتقى في طريقه بغلام من البدو، فأوصاه أن يأخذ الصحفة من القصر إلى بيت مضيفه، وأن يبلغ مضيفه نبأ ارتحاله. |
|