شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(15)
كانا على مرتفع من طريق السابلة، تحجبهما شجرة الأثل الكبيرة عن عيون المارة من رعاة الغنم والفلاحين. كانت ((فكرة)) مرتفقة جذع الأثلة، وجديلة من شعرها تغطي جبهتها، ثم تمضي في هون حتى تلامس ثغرها، تستقر أطرافها بين ثنايا كأنها الصَّدَف اللامع، كأن فرعاً من الأثل يصارع شعاعاً خافتاً على وجهها الضامر وملامحها السقيمة. وكان هو على خطوات منها واجف القلب، مبلبل الخاطر، لا يدري أية نزوة من نزوات القلب جمحت به إلى هذا العبث، وأي مرض من أمراض النفس قاده إلى هذا النزق!!
استبدّت به الهواجس، وانثالت عليه الأفكار سوداء قاتمة. ما باله يعني نفسه بهذه الشواغل المبتسرة؟؟ وما باله يغزو هناءته وخلو باله بهذه الهموم التي نفض يده منها، وسئمتها نفسه؟
بدأ يشعر من جديد أنه على شفا هاوية تجذبه إلى قاعها، قوة ليس في قدرته مقاومتها، وأنه يرسب في بحيرة من بحيرات الدم التي شهدها تلمع في صفحة السماء، وتصطفق أمواجها.. إلاّ أنها بحيرة ليس لها ساحل يتركه، أو مرفأ ينتهي إليه.
جالت هذه الأفكار في رأسهن، وشعر أن الجبال الشماء والوادي وقطعان الماشية، تشاركه هذا الشعور، وتشاطره الأسى في سكون وصمت رهيبين.
ونظر إلى فتاته.. فإذا إشراقة من الخجل، تطغى على وجهها، ورعدة خفية تمشي في أوصالها، ورآها تجمع رجليها تحت دثارها، وتعتدل في جلستها حين تواجهه، ثم تشخص إليه بعين لا تطرف وتعود إلى صمتها.
ما حاجته الآن إلى كلامها وفي انحلال هذه المسكينة، وانكفاء لونها، وما يبدو في ملامحها من آثار الذبول ما يدل جميعه على مبلغ ما تعانيه من آلام نفسية، كان هو وحده سببها؟؟
ما حاجته إلى الكلام؟.. وهذه آهاتها وما يعلو ويهبط من أنفاسها، يترجم بأصدق بيان، ويشرح بأوضح ما يمكن الشرح عن الأفكار القوية التي تضغط عليها، وتعذِّب وجدانها!
طال بينهما الصمت وعيناهما لا تطرفان عن الشخوص إلى بعضهما، ثم صعدت من أنفاسها زفرة عميقة تورَّدت لها وجنتاها، وقالت في صوت متهدّج:
أعرفُ من أمرك وحالك أكثر ممّا أردت أن تعرِّفني به، إن صدقاً أو كذباً، كما أنك لا تعرف مني إلاّ أنني فتاة في ميعة صباها، فتنتك فيها طبيعة الارتجال المتأصلة في كثير من الرجال. فأنا إن فتنتك اليوم.. فذلك لأن في كثير من الرجال طبيعة الاستعداد للفتنة بأول ما يصادفهم في الفتاة من صباها، أو رواها، أو مسحة من الجمال قد تكون خداعة فيها.
وأنا من طبيعتي أكره الارتجال في كل شيء.. فإذا رأيتك اليوم ترتجل الهيام لنفسك ارتجالاً، وتندفع معه اندفاع من تغريه السطحيات، فلا آمن أن يتغير رأيي في رجولتك ونضجك!!
أية هوّة عميقة تدفع بنفسك إليها، وتريدني أن أندفع معك فيها؟! إلاّ أنني أدري أنني إن طاوعتك فستجد نفسك بعد لأيٍ عند سراب خداع.. في بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.. حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً!
ترفّق بنفسك، ولا تضف على فتاتك هذه المغريات البرَّاقة، فإنك لا تدري مقدار ألمك يوم ينكشف ما أضفيت من مغريات من حقيقة مُرّة لا يستسيغها مزاجك، ولا يستمرؤها مذاقك!
أنا يا أخي فتاة ليس لها عقل من تعرف من الرجال والنساء!. أعيش في أفكاري وميولي الخاصة في عزلة تامة من الناس، هانئة بهذه العزلة، سعيدة بهذه الأفكار والميول. ينعتونني بالشذوذ مرّة، والجنون أخرى، فأتقبّل نعوتهم بنفس راضية؛ لأن السعادة والرضا يتركزان في ذهنك، وتؤمن بهما أحاسيسك قبل أن تتولاهما التعاريف وتحددهما مصطلحات الناس.
قالت هذا، ثم شخصت ببصرها إليه في قلق واضح تستطلع ملامحه وما ترك حديثها من أثر. ثم نكَّست رأسها، وأطرقت ملياً. ثم عادت فرفعته مشيرة إلى سالم بالمسير. فقام يتبعها بعد أن ألقى على العجوز تحية الوداع، وشكرها في كلمات مضطربة!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :343  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج