(12) |
وما انتهت العجوز عند هذا الحد من حديثها، حتى كان قد سرى عنه أكثر ما يجد من لوعة الشك، وما داخله من حسنائه الجميلة. |
ولم يلبث إلاّ قليلاً حتى عاودته الوساوس من جديد في شأنها، وراح يحاسب خيالها على هذا الشيوع والانطلاق، ويلصق به وبها شيئاً من معاني الرخص والابتذال، وودَّ لو استطاع أن يقف بها عند حد من الحشمة والاتزان. وأوغلت به وساوسه إلى نقطة بعيدة من الظن والإثم. فهي إنسانة كاذبة إلى جانب علمها ووعظها! |
والعالم الواعظ إذا جربت عليه كذبة واحدة كانت مظنة الزيف وشبهة الخداع.. وقد تركها يوم أن أسلمته الطريق إلى بيته تصعَّد في شمال الوادي إلى منازل الرعاة لحضور احتفال زفافهم، فما بالها اليوم تبيت في قيعان الجنوب.. لا يبعد أنه خداع المزيفين من الكهان، وزيف المخادعين من أصحاب الوعظ والإرشاد.. لا يبعد أن تكون على وعد من حبيب مختار تسترق إليه الخطى، وتختلس الأوقات لزيارته! |
وعاودته ذكرى كبريائها مرة أخرى، وفلسفتها العريضة في الحب، فاستنكر على نفسه هذه الوساوس، وعاد يتلمس لها شتى المعاذير والأسباب. |
ولاحت منه التفاتة نحو الساقية، فإذا ((فكرة)) تشرف عليه من وراء حائطها في قوامها الغض، وثوبها الفضفاض، وعينيها المتوقدتين حماساً وذكاءً، فلم يملك أن وقف يحييها ويبسط شيئاً من الحشيش الجاف لجلوسها، فتهالكت عليه في شبه إعياء، بعد أن حيَّته وعطفت على عشة العجوز تلقي إليها بالسلام. |
وندت منه زفرة مكتومة، فالتفتت إليه وقد أدركها شيء من القلق، ورأت نفسها تسأله في حنان ورفق: |
- أتتألم؟
|
- .. لا أتألم.. ولكني أفكر.
|
- فيمَ تفكر؟
|
- إنهم هنا يتهمونك بالجنون.. وقد تراءى لي أن ألتمس أدلتهم في تصرفاتك؟
|
- ألديك فكرة صحيحة عن حقيقة الجنون؟
|
- أبداً فالمسألة لا أكثر من عُرْف تواضع عليه الناس، هناك تصرفات شذت على قواعد الحياة، فدلَّت على خلط، أو دخل في القوى العاقلة، عرفها الناس فيما بعد بالجنون.
|
- أتعني أن الحياة سنَّت لنفسها قواعد؟ أم أن شيئاً آخر غير الحياة سنَّ لها ذلك؟
|
- ليست الحياة عاقلة فتنظم لنفسها، وإنما هم أبناء الحياة.
|
- أو إن شئت صفوتها منهم، تواطأوا على تنظيم الحياة ضمن حدود لا يخرج عليها إلاّ شاذ أو مدخول، وبالاختصار.. مجنون.
|
- أنت -خطأً- تزكي كل ما تواطأ عليه الناس!
|
- ألم أقل هذا؟!
|
- أتقول إنه إذا تواطأ الناس على ما يسمّونه بالجنون، فأنت تخالفهم؟
|
- ألم أقل هذا؟!!
|
- أرجو تحديد ما تقول.
|
- ما تواطأ عليه الناس يحتمل الخطأ والصواب.
|
- وأنت شخصياً تحكم بما يحتمل الصواب والخطأ.
|
- ألم أقل هذا؟
|
- أرجو تحديد ما تقول.
|
- لا أريد أن أحدد شيئاً، ولا أن أقول شيئاً.
|
- وتريد أن تسمع؟
|
- سأسمع.. وذلك شأني كلّما جلست إليك.
|
- إذا وضع (الحكيم العاقل) نواة قاعدة في الحياة، فالمفروض أن تستوحي حكمته. فما هي حكمته هذه؟ إنها قواه العقلية متأثرة بمجموعة كبيرة من عوامل محيطه، فعبّاد البقر، والبوذيون، وهمج إفريقيا.. فيهم حكماء يشرِّعون لأممهم قواعد في الحياة يستوحون فيها حكمتهم وقواهم العقلية المتأثرة بالكثير من سخافات محيطهم.. ومع هذا فهي قواعد.. وهي سنن في الحياة.. وهي نظم لها رعايتها، فإذا كنت فيهم فهل من رأيك الخروج عليهم فيها.. أم متابعتهم عليها؟
|
إن كنت الأول فأنت مارق خارج مجنون، وإن كنت الثاني فأنت مدسوس على نفسك، مغبون لغيرك..!
|
في الهند جماعة يذبحون البقرة، وآخرون يقفون مذهولين يسأل بعضهم بعضاً: ما يمنع الجبال أن تميد، والأرض أن تبيد، بهذا النفر الطاغي يطعن آلهتهم، ويطعمها أهله وأولاده؟! |
هذان خصمان عاشا في بلد واحد، ونهلا العلم والجهل من معين واحد، وأترع كل جانب منهما بالحكماء المشرِّعين والعقلاء.. فما منع الحكمة أن تجمعهما والعقل أن يستصفي الخلاف بينهما؟. |
لا شيء سوى أن العاقل لا يستوحي حكمته خالصة، ولا يضع قاعدته في الحياة إلاّ متأثرة بالعوامل الفعّالة في محيطه، ولو لم يكن هذا لكان أبناء الحياة على غير هذا النحو: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (المائدة: 48). |
إنني لا أزكّي نفسي فأدعّي أنني إذا كنت مجنونة فلأني أحدهما.. لا أزكيها لأني إذا كنت أعقِل بعض الأشياء، وأجدِّف على بعض القواعد، فإِني لا أزال، رغم ذلك، متأثرة بأكثر مِن عوامل أحاطت تربيتي ونشأتي. وهاأنت ذا تراني مثلك! إلى حد ما
((
عبدة
))
لكثير ممّا أحاط بي وينكره عقلي.
|
أريد أن أخلص من كل هذا.. إلى أن قواعدنا في الحياة ليست صواباً كلها، لأن واضعي نواتها كانوا لا يستوحون حكمتهم فيها مجردة من أدران محيطهم، وأن الخروج عليها ليس خطأ كله ولا جنوناً كله.. فإِذا رأيتني في نظر غيرك مجنونة، فكن أثبت من أن تجاري التيار، واخلُص مرة واحدة من مؤثراتك المحيطة، لتستطيع أن تراني على حقيقتي بعينك المجردة، وتحكم في شأني بغير عقلك المشوب. |
|