شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(11)
وعاد إليه هدوئه بعد لأي، ورأى أن يستدرج الأم العجوز ما أمكنه الاستدراج.. عسى أن يلمّ بطرف ممّا يشغله عن ((فكرة)).. فاستجمع نفسه وناداها، فبرزت إليه ملفوفة في ثوبها الطويل، مصكوكة الوجه في حياء، فقال:
- غمرني لطفكم ولمَّا تعرفوا بعد شيئاً عني، فكيف لكم لو نزلكم ضيف معروف منكم، نابه في نواحيكم؟؟
قالت: وقد استدارت على عقبها لتوليه جانبها المغطى:
- إنه لا فرق عندنا بين ضيف وضيف، حسبه أنه نزل علينا.. لا نسأله في العادة من أين؟ أو إلى أين؟ أو كيف جاء إلينا؟. حتى نقريه ونكرم وفادته، ونتركه في حل من الحديث عن نفسه بما شاء وقت أن يشاء. أتريدني أن أسألك فيمَ وصلت إلينا وأنت طارق أرضنا عابر سبيلنا؟
إنها دنيئة ما نزلْتُ إليها وأنا بعد صبية ألعب في هذا الوادي.. فكيف بي وأنا في مثل هذا السن؟!
- ولكنكم تكلون مؤانسة ضيوفكم إلى إنسان أو إنسانة خص أو خصَّت بذلك مبالغة في التكريم، أو عادة جرى عليها هذا الحي عندكم.
- إنها إلى التكريم أقرب، وإن الفتاة (( فكرة )) وإن لم تكن من حيِّنا، ولكنها حبيبة صادقة، جوَّابة آفاق، لا ينقطع سيرها بين هذه الأصقاع، ولا يفتر لسانها عن الحديث الكثير الجميل. وهي، على كونها فتاة لم تبلغ مبالغ النساء، يستوي عندها الرجل والمرأة، لا تبالي بجيش من الرجال، تقحم نفسها فيه.. لتتحدث وتتحدث قط.
- إنها تتحدّث عن الله، وعن الرسول، كما تتحدث عن سير الأولين وتاريخ الآخرين. تتحدث في جميع العلوم لا تستثني شيئاً منها، بكلام يسر رجالنا حيناً، ويبغضهم أحياناً كثيرة، ولا يرضي قط نساءنا، فهي أبداً ناصحة واعظة شديدة القول، صارمة الحجة قوية البأس.
- ولكنك تذكرين أنها فتاة. والعرب لا تزكي فتاة تجوب الآفاق، وتقحم نفسها في أوساط الرجال، وأظنك ككل عربي من أمتك، تنكرين عليها مثل هذا الطيش، وتحتسبينه ضدها منقصة لا يغطيها ثياب الوعظ!!
- أبرأ إلى الله ممّا ظننت وما يظنه الكثير معك. إني لا أنكر هذا التقحم فقط، بل أمقته أشد المقت. ولكنها عالمة، يا سيدي، بكل أنواع الحلال والحرام، مجنونة بعلمها إلى حد يهابها فيه أقوى الرجال! ولقد تعرض لها كثير من فتيان القرى فكانت تجابههم بأشد القول، ولا تكتم ما يدور بينها وبينهم.. ترويه في كل مناسبة، وفي كل مجلس واضحاً بأسمائهم. وسوَّلت للبعض نفوسهم في أن يطارحها الغزل الرخيص، أو الألفاظ المبتذلة، فكانت تحمل كل ما يدور بينهم وبينها على محمل واضح جريء، وتنقله بأمانة إلى أول رجل تلقاه، أو امرأة تقابلها بشيء من التهكم اللاذع، والسخرية الفاضحة، فكان الفتيان والرجال على السواء يخشون جرأتها في النقل، ويخافون تعريضها بكل ما ترى أو تسمع. لهذا لا تجدني أتردد في تزكيتها. ولا عبرة عندي بما يتمشدق به رجل رخيص، أو امرأة جاهلة.
- إذن في البيداء مَن يتمشدق بها، ويلوي لسانه بسيرتها!
- لا يسلم الشرف الرفيع، مهما علت ذروته، من أذى الناس؛ ومثل هذه الفتاة في تهورها وخفتها وإقحامها نفسها في كل ما يسأل عنه الرجال -حتى من شؤون سوآتهم- عرضة لأصحاب الفتك. وإنك لتخالها وأنت تسمعها تهرف في كل ما يكون بين الرجل والمرأة مستوراً بالعادة، لا تستثني شيئاً منه أمام سائل. تخالها وأنت تسمعها كذلك.. إنها إحدى الخليعات، تتهتك فيما يلذ لها ويحلو. ولكنه جنون العلم فيما أعتقد.. إذاً كنتم تعرفون أن في العلم جنوناً!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :333  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.