(10) |
لا يدري كم مضى على غيبوبته وهو مسجّى في أرض الكهف.. ولكن الذي يدريه أنه عندما فتح عينيه ليرى ما حوله لم يجد في الكهف إلاّ بدوية عجوزاً تصلح من ضماد البن في رأسه، وتغسل ما بين عينيه ووجهه بماء فاتر، ففتح فاه ليقول شيئاً أو يسأل عن شيء، فلم يُسعفه النطق، ولم يقوَ لسانه على الحركة، فعلم أنه لا يزال تحت تأثير الصدمة العنيفة، فأطبق عينيه واستسلم لنوم عميق. |
ولا يدري كم مضى عليه قبل أن يستفيق ويستعيد نشاطه، ولكنه يدري أنه زاحف على بطنه إلى باب الكهف، أشرفت عيناه على النور، وامتدت أمامه السهول الخضراء، بامتداد الوادي تلمع بين أوراقها قطرات الندى.. وأقبلت عليه البدوية العجوز تحمل في كفها وعاءً نظيفاً طافحاً باللبن الطازج، وقدَّمته إليه في حياء، وهي تستر نصف وجهها بجزء من كمها، فشربه مقدراً لها هذا العطف وهو يقول: |
- كم ساعة قضيتها نائماً يا أمّاه؟
|
- لم تنمْ ساعات يا بني. فقد نمت يوماً وليلة.. أرجو لك بعدها العافية والصحة.
|
- تعنين أني أويت إلى الكهف أمس؟
|
- نعم وقد أزحت إحدى معزاتي لراحتك عندما رأيت آثار المطر شديدة عليك. إلاّ أنك لم تستقر طويلاً حتى نفضت نفسك تزمع الخروج، وقبل أن أنبهك إلى سقف الكهف كان قد صدمك فهويت. والحمد لله على عافيتك.
|
- هو ذاك يا أمّاه.
|
ولم يسعفه النطق بأكثر من هذا، فكان حقها عليه أن يقدر صنيعها بكلمة طيبة، ومن حقه على نفسه أن يتعرف منها حقيقة الصوت الذي سمعه، فهي أعرف الناس بناحيتها. ولكن الألفاظ ماتت على شفتيه، والمعاني غاصت في فؤاده الفارغ. ولمح العجوز تمضي إلى كوخها في ظل ساق غليظة من أشجار الجميز، فتحامل على نفسه وقام يتبع خطواتها، حتى إذا بلغ من كوخها ما يبلغه الصوت منها، ناداها فبرزت تتبعها صبية صغيرة في يدها قصعة من ثريد، تعلوها قطع اللحم، عطفت بها ناحية ظليلة من شجرة الجميز ونادت: |
- تفضل فقد أبطأت عليك، لأن ابنتي الصغيرة لا تجهز حاجتنا بدون معونتي.
|
قال وهو يأخذ طريقه بين فروع البطيخ المتعانق تحت مواطئ أقدامه: |
- لا أحسُّ جوعاً كثيراً، ولكني في حاجة إلى كوب ماء أروي بها ظمْئي، وقدح آخر أغسل به رأسي ووجهي، فالتفتت إلى (سعدة) الصغيرة وقالت: ضعي ما في يديك أمام السيد، ودونك جرّة الماء الصغيرة فاملئيها من الجدول، واحمليها إليه يغسل أطرافه منها. ثم التفتت إليه في وقار وهي تقول: |
- لتتفضل بالجلوس، عسى أن تطيب نفسك لطعام البدو. وإلى أن أجهز لك فنجاناً من الشاي تكون ابنتي قد حضرت بجرتها، فأبعث بها خلف
((
فكرة
))
!!. وهي من فتياتنا أنصاف الحضر يؤنسك كلامها، ويشجيك حديثها.
|
يا للدهشة!.. أفي كل مكان (فكرة)؟! هي في قرى شمال الطائف.. وهي في حفلات الرعاة وراء العدوة القصوى من طريق (المعسل).. وهي كذلك في هذه المروج المتصلة بالطائف القريبة منها! هي من بنات هذا الحي!.. وصبايا تلك المنازل.. حيث يقيم الرعاة حفلات عرسهم!! ولا يبعد أن تكون من قريبات وصديقات كل البدو في جميع وديان الحجاز وبواديه! |
- ثم ما هذا الأنس الموزع على كل طارق؟ أتوكيل هو من أبيها آدم على ذريته المشرّدين والهاربين وقطَّاع الطرق؟ أو شيوعية لا حدود فيها ولا نظام.
|
ونال ذلك من نفسه وآلمه، وحزّ في فؤاده هذا الشيوع والانطلاق. |
|