(5) |
ولم يطل تردده حتى مضى في طريقه يعبر الوادي، وصادفته شجرة مزدهرة، فوقف يتشاغل بقطف بعض زهورها عن كثب منهما، فلم تبدر منهما حركة ولم يغيِّرا مِن وضعهما، ولم يتجه أحدهما بكلمة إليه. فاستأنف سيره حتى انتهى إليهما.. أحسنا استقباله، وقاما إليه فأجلساه بينهما، وسمعها تصل ما انقطع مِن حديثها مع الراعي قائلة: |
- هذه عادة ما عرفها العرب، ولم يوصِ بها الإسلام ولكننا نتشبث بشيء مقدس وإن كان بعيداً عن المنطق والعقل، بعيداً عن الدِّين.
|
قال سالم وهو ينظر إليها مرة وإلى الراعي أخرى، وقد أصبحت براءتها لديه أكثر منها في كل ما مضى: |
- أتحاضرين في الاجتماع؟
|
قالت وقد اتجهت ببصرها نحوه واعتدلت في جلستها لتواجهه: |
- نعم إننا في شأن خطوبة أخته. تقدم ليدها -كما يخبرني- رجل مِن منازل الْهُدى، ظاهر المكانة، فحاز الرضا والقبول. وعنَّ للرجل في النهاية رأي شاذ في عاداتهم، هو أن يرتحل في جماعة من بني قومه، وينزل بهم كأضياف تعلّة لمشاهدة خطيبته قبل البناء بها، فاعتبروا رأيه شططاً، واقتحاماً لا مبرر له. فما كانت ابنتهم جارية تعرض في سوق النخاسة والبيع!! وليسوا من الضعة بحيث يرى الخطيب ابنتهم قبل بنائها! |
هذا شيء يبيحه الدِّين ويقره العقل السليم. يعرض له العرف شامخ الرأس منفوخ الأوداج ليقول كلمته: ((لا)) صاخبة مدويّة، فنقول بقوله: ((لا)) وننسى ديننا ونلغي عقولنا؟! |
نحن في هذه الحياة -يا صاحبي- عبيد العرف والتقليد، ويبيح الدِّين شيئاً أو يوحي به فيستنكره عُرفنا، فنلوي كمَن مسّه خبل، ونصم آذاننا كما لو كان بها وقر. جرياً وراء العرف وتقديساً للتقليد؛ ويستقبح الدِّين أموراً لا يرضى عنها، فننثني وراء التقليد والعُرف كأنه لا يعنينا غيرهما!!
|
كل الإضافات المترفة في حفلات الزواج في بوادينا وحواضرنا يستقبحها الدين، وينظر إليها نظر السرف المقيت. وأكثر هذه الطقوس التي نقيمها في أكثر المناسبات، ونحن نعرف بُعدها عن العقل والمنطق، نرزح تحت أعبائها مكرهين أو راضين، لأن العرف وشَّاها بشيء مِن التقديس، ولأن التقليد نصب لها مكاناً مِن الأبهة والتبجيل.
|
ومآتينا اليومية، وشؤوننا، ومصطلحاتنا.. لو كنا نستوحي فيها ديننا وعقولنا، لجئنا على تسعة أعشارها محواً وحذفاً، وعشنا بالقليل متدينين كالرعيل الأول في الإسلام، بسطاء كأول عاقل دبَّ على الأرض.
|
الدِّينُ يحكم للمرأة على وليِّها أن يأخذ برأيها في خطبتها، ويقر العقل ذلك بوصفها شريكة مقبلة على أهم مشروع في حياتها، فلا يلبث العُرف أن يقحم نفسه، وأن يحل محل الدِّين والعقل، ليقول كلمته عنهما، وينفذ أمره دونهما.
|
والمرأة في الحضر، لا تصك وجهها في خطيبها الرجل، بل تضرب بسور بينها وبين قريباته من النساء، لئلا يرينها بمناسبة الخطوبة فتعدو جارية في سوق النخاسة والبيع!
|
كل هذه سفسطة تنافي تعاليم الإسلام، ومنطق العقل، ومع هذا، فنحن نتعسف إرضاءً لها، وننزل على إرادتها وحكمها طائعين.
|
إن جميع عاداتنا وأخلاقنا موبوءة بالخرافة والتقليد، إن التقليد والخرافة صنوان يجدان مرتعهما خصباً في منابت الغفلة والجهل!!
|
لنتعلم. لنتعلم يا صاحبي بأبسط الطرق المبسطة التي نُعنى فيها بالعقل، تكيفه وتُهيئه للفهم، أكثر ممّا نُعنى بالمادة والكم نزجيهما ونفخر بهما.
|
وأسندت رأسها بيدها كمَن يستجم من إرهاق واصب، ثم عادت فرفعت رأسها وتطلّعت إلى الأفق البعيد، وندت عن صوت انتزع من أعماقها: يا رب بهذا حكمت مقاديرك!!
|
ثم قفزت كلبوَة ضارية. وعدت منطلقة في مسارب الجبل دون إنذار أو وداع. |
وتطلَّع سالم إلى الراعي، فإذا هو مشدوه لم يفق بعد من تأثير كلماتها فقال، يسبر غور ما تركت فيه: |
- أتراها عاقلة؟
|
قال الراعي، وقد بدأ ينكت الأرض بجريدته الصغيرة: |
- إنه لا ينقص هذه البوادي إلاّ عشرون مِن هذا الصنف المجنون يقلب بنا الأرض، ويأتي على جميع أصنامنا!
|
وما أتم جملته حتى بدت له واحدة مِن غنماته تترك القطيع مغِذَّة في الحقول، فغدا يجري نحوها مشغولاً بها. |
وظل سالم وحده يتطلع إلى مسارب الجبل تصعد فيه الفتاة كأنها تمضي إلى غير غاية، وقد بدت في ساقيها الدقيقتين غزالاً يتوثب بين النتوء والصخور! |
|