(3) |
وعاد إلى مجلسهما من الكوخ، وهي تقدم إليه فنجان القهوة: |
- ليتني أعرف مَن تكون، ومن أي الحضر أنت؟ وفيمَ هذا الإمعان الضال في الليل البهيم وبين مسالك وعرة غير مطروقة؟.
|
- أمّا أنا فمكيّ من بني هاشم، ثم من بني عبد مناف، عاش أجدادي عيشك هذا في ظلال مثل هذه السفوح، وتمتعوا بفطرتهم السليمة، بين مناظر الطبيعة البريئة، ثم تحضَّروا على مر الحقوب، فنشأت أنا بين خمائل القصور، وهين العيش، ففقدت صرامة بني هاشم، وبساطة عبد مناف، ولكن لم أفقد شيمتهم وإباءهم.. وينزع بي عرق دساس إلى هذه الطبيعة العارية؛ فيسلس لها قيادي، وأمضي الفينة بعد الأخرى أرود جبالها الشم، وفيافيها الوعرة، إلى غير طوية، إلاّ أني أستجيب إلى ما تنزع إليه نفسي، ويدفعني إليه هوى طاغٍ!
|
قالت وهي تتحسس موضع كُمِّها من زندها وتعيده مطوياً إلى مرفقها: |
- وقد عثرت من ليلتك على عنز الجبل ضالة منفردة، فاستأسدت، ودعاك حنين الأجداد الصِّيد، إلى صَيْد البيد!
|
- هي ذي ريبتك المستغلقة!!
|
- أبداً، ولكنني أمزح.. ولست في نظر نفسي عنزاً ضالة، ولكني ذئبة رئبال، أرود الفيافي وأنا واثقة ممّا أرود، وأتعرَّض للأهوال، وأنا موقنة بنفسي عارفة لما أتعرض.
|
قالت هذا وكشفت في فتق من جيبها عن سكين لامعة النصل تمنطق خصرها الرقيق. |
قال وقد أخذه الدَّهَش، وملكته الروعة: |
- لست آمن أن تكوني من غير بنات الإنس، تتنكرين في مثل هذه الثياب عبثاً بالمارة!
|
- لا يا صاحبي.. لست إلاّ من بنات الإنس!.. ولست عابثة كما تتوهم.. إن في احتفاظي بالسلاح أسباباً.. إنها نقطة السر في حياتي التي ستستمع فيها إلى قصة من أروع ما قرأت من قصص.
|
ستدَّعي بعد اليوم -وأنت صادق- أنك بتأثير قوي لا أفهم كنهه، استطعت أن تفتح مغلقاً في نفسي ما فتحه غيرك، وتعرف من أمري ما ظل إلى اليوم سراً مطوياً!
|
إنني يا هذا من بنات قرية (...) في شمالي الطائف. كان أبي -ولعلّ في إطلاق كلمة أبي على ذلك العجوز الطيب، تجاوزاً كما كنت أسمع من بعض المتشككين- لأني ربيت في حِجْرهِ، دون أن أعرف لي أباً، ونشأت على اعتباره أباً، كما كان يُسمّي نفسه، وكما كنت أفهم قبل أن يخالجني الشك..!
|
كان أبي هذا معلم القرية وفقيهها، وإمام السقيفة الصغيرة التي يُطلق عليها مسجداً يصلى فيها، ويعلّم بعض الصبيان. وقد نشأت كخادم لهذه السقيفة، أُعنى بتنظيفها وإضاءتها، وترتيب ألواح الصبيان فيها، وكنت إذا فرغت من عملي عند مجيء الصبيان، شاركتهم القراءة والتهجِّي، حتى تفتحت عيناي على ذلك، ولاحظ أبي أن في استطاعتي مساعدته في تحفيظ المبتدئين، فوكل ذلك إليّ، ومن ثم ظل يُعنى بي عناية خاصة، بعد خروج الصبيان، إلى أن هيَّأني لكتابة ألواح المبتدئين، وتفتَّحت عيناي، بالتدريج، على القراءة والخط.
|
ولاحظ أبي استعدادي لمعونته، فكان يشركني في تعليم الأطفال حتى فوق المبتدئين. وفي المرات التي كان يتغيّب فيها عن الكتَّاب لشأن من شؤونه الكثيرة في القبائل المجاورة، كنت أتولّى عمله.. وكان الأطفال ينادونني بالفقيهة، وكذلك فعل نساء القرية ورجالها.
|
وشعر أبي أنني في حاجة إلى أن يزوّدني بأكثر ممّا يقتضيه محيط الكتّاب، فترك بين يديّ كتاباً في القصص؛ فالتهمته بروح الجائع. ورأى من قراءتي ما سرَّه، فمنحني كتاباً في الحديث، وطلب إليّ أن أقرأ عليه في كل يوم جزءاً منه، ثم يعقب بمناقشتي، فشعرت بالميل الشديد إلى إتمامه في بضعة أيام، وقد كان.. وتفتحت روحي لمعانيه، فكنت أُسابق أبي إلى حلها، فيسره ذلك مني، ويربت على كتفي في حبور وبهجة.
|
وانقضت سنة وأخرى، كنت في نهايتها قد أوفيت على قراءة المصحف بكامله، وفرغت من كتاب الحديث الذي ذكرت، وشرعت في مطالعة كتاب من كتب التفسير، فتوسعتْ آفاقي، وشعرتُ بميل شديد إلى قراءة كل ما يقع تحت بصري.
|
وزار قريتنا في إحدى المرات موظف عجوز في طريقه إلى مهمة رسمية، فلفت نظره مرأى فتاة صغيرة، تتفيأ خميلة وارفة على ضفة جدول، في يدها كتاب تتصفحه! فترجَّل عن دابته، وخطا إلى ناحيتي، وابتسامة شائعة في محيّاه، ثم تناول الكتاب، فإذا هو للعلامة (ابن حزم)، فوضع يده على صفحة منه، وطلب إليّ أن أقرأ، فاندفعت في قراءة الصفحة بكاملها، وبدأتُ الثانية، فاستوقفني، وشرع يناقشني في معانيها، فكنت أتعثَّر في أكثرها، ولكني أجيب إجابة صحيحة في أقلها. فأخذه العجب، وسألني عن أبي، فما إن عرف أنه معلِّم القرية حتى قال لي:
|
- سأبعث إليك باسمه بعضاً من كتب الأدب والشعر، فاحرصي على قراءتها.
|
فأطرقتُ برأسي، وشكرتُ له عنايته في كلمات قصيرة.
|
وكان العجوز يهبط قريتنا كثيراً في ذهابه وإيابه، وكان في كل مرة يبعث إلى أبي باحثاً عني، فيأمرني أبي بمقابلته، فأقابله، وأقرأ بين يديه.. وكان لا يقبل مني قراءة ما، حتى يستوضح معناها، فكنت أصيب تدريجياً في الكثير، وأخطئ في النادر القليل.
|
وفي إحدى المرات ناولني مجموعة كاملة لمجلة بيروتية، تعنى بالدِّين والأدب والاجتماع، فجعلتها سلوتي في الليالي المقمرة؛ فكنت أقرأ حتى إعلاناتها القضائية والتجارية!
|
وشعرت بعدها أنني في حاجة إلى تنظيم قراءتي، فابتدأت بالتاريخ.. درست أيام العرب وحروبها، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغزواته، وسيرته الخاصة، ومضيت فيما بعد ذلك من أحوال الخلفاء، فقرأت أكثر ما كتب عنهم، وكوَّنت لنفسي رأياً خاصاً في ذلك، ودرست دويلات الإسلام، وقرأتُ نِحَلَهم وأكثر مذاهبهم، وقرأتُ العهود الثلاثة؛ العثماني، والهاشمي، والسعودي. وأمعنتُ في دراسة النقط الفارقة لكل عهد على حدّه.
|
وزادت صلة أبي بالموظف العجوز، إلى أن امّحلَّت ديارنا، وجفَّت آبارنا في بعض السنين، فهبط بي أبي إلى مكة، فكنا ضيوفاً بدار الموظف الذي حباني بالكثير من حنانه، وساعد على تنظيم قراءاتي، وكانت له مكتبة عامرة؛ وجدت فيها ما أنشد، وتركني والدي أتفرّغ لقراءة ما أريد، ولم يمنع العجوز عني شيئاً تناولته يدي، حتى أن ما يحظر على الفتاة قراءته في العادة، كان لا يحظره عليّ. وقد سمعته مرة يقول:
|
إني لا أخاف على المتديِّن من ألف كتاب مستهتر!!
|
واعتزم السفر إلى الآستانة، وكنا نزلاء عنده، فتمنّى على أبي أن يتركني لأصحبه في رحلته، فتمانع قليلاً، ثم نزل على إرادته وأصبحت يوماً، فإذا السفينة تقلع بنا، تمخر العباب في طريقها إلى السويس. وأقمنا يوماً في السويس، وعشرين يوماً بين الإسكندرية والقاهرة؛ نزلت فيها عن كثير من ملابسي، وأكثر من الكثير من عاداتي، وانغمرتُ في لجّة الحضر، وتعرفت إلى الكثير من أخلاق المدنية وعاداتها، وشهدت مدارس البنات في الإسكندرية، والقاهرة، والآستانة فيما بعد، وناقشتُ المتعلّمات، وحضرتُ مجالس العلماء من أجِلَّة الأزهريين، وكبار السلفيين، وفلاسفة المتصوّفين.
|
ثم انتقلنا إلى الآستانة، وعرجتُ في طريقي إلى إيطاليا، فشهدت عظمة نابولي، ومدينة روما، ووضعت أنفي في الجوامع، والمعاهد، والأكاديميات، وحفلات الرقص والموسيقى! واختلطتُ بالعلماء في غرف تجاربهم، والخليعين في نواديهم العامة.
|
وانتهيتُ بعدها إلى الآستانة، فاختلطت بالطبقات المستنيرة، والجاهلة، وتعرفت إلى الأُرستقراطيين والعمال، وقادني حنيني إلى المزارع والجبال، فسامرت البدويات في مرتفعات الأناضول، والفلاحات في سهول أزمير.. وكنت موضع عناية سيِّدي العجوز، طوال خمس سنوات، أقمتها في الآستانة؛ كما كنت محل رعاية ابنه البكر، الذي كانت تجمعني به حياة متجانسة؛ متفقة العناصر.
|
ونُعي إليّ خبر وفاة سيدي؛ وأنا في قرية نائية، فكانت مأساة ما نسيتُ ولن أنسى هولها ما حييت. وقفلت عائدة إلى الآستانة، حيث تقدمت بعزائي إلى الأسرة الكريمة وعاهلها الشاب.
|
وحاولني الشاب على أن أقبل يده كزوجة، لكني كنت قد سئمت الحياة المدنية، وتاقت نفسي إلى قفار الحجاز الهادئة، ولست آملة مهما سما ظرفه، ورقَّت حواشيه، أن يواتيني بالعيش في حدود الفطرة في مثل هذه الأصقاع الحبيبة إلى نفسي.
|
وهكذا استأنفت عودتي إلى الحجاز فنعي إليّ أول وصولي، خبر وفاة والدي الفقيه، وتفرقت الأسرة بعده في قرى متناثرة في بوادي الطائف؛ فاعتمدت نفسي واتخذت من بعض ما أوصى لي به والدي، سكناً يؤويني.
|
فإذا نازعني الشوق إلى زيارة بعض أقاربي في القرى بين وديان الطائف، جمعتُ إلى صرَّتي ما أتبلغ به في طريقي، وبدأت مسراي في دروب لا تخفاني مسالكها، وليس بين سكانها مَن يجهل شأني فيها!!
|
حياة لك أن تقول فيها ما تشاء. إلاّ أن تسميها غير جميلة.. فأنا في متعة روحية دائمة، وليس لذاتي مطلب تعتدّ به أكثر من كسرة أزدردها مع شريحة من الشواء، وفنجان من القهوة، وحسبي من الحياة جولاتي في هذه الطبيعة السافرة، أصعد في هضابها، وأنحدر في أوديتها، وأرود مروجها الخضراء، فأتخذ مقيلي بين جداولها. حتى إذا ما انحدر ميزان الشمس؛ سرحت إلى عالي السفوح.. أرتع فيها كأني إحدى السوائم، وأستجلي جمالها الفاتن الجذاب.
|
وفي الليالي القمراء أدلف إلى إحدى الروابي العالية، على كتف من أكتاف هذه البوادي، فأمتِّع نفسي بمنظر القمر يلقي ضوءه على حواشي الوديان الخصبة، وتنعكس أشعته الفضية على جداولها، وهي تنساب رقراقة إلى المروج المخضلة الجميلة. وأظل على هذا حتى أنتهي إلى القرية التي أقصدها، لألبث بها أياماً.. أستأنف بعدها عودتي على غرار ما ترى!!
|
|