(2) |
أدهشتها تصرفات الرجل، وأكبرت فيه مروءته ورجولته، وهالتها رخاوتها واستسلامها إلى غريزة الأنوثة، وهي ربيبة الوعور والجبال. واستشعرت الجد والشجاعة، وبرزت لمواجهته كما يبرز الفارس الواثق من كفاءته أمام الند: |
- خلِّ عنك يا هذا.. فلست من ربَّات الخدور، ولا عانسات القصور.. إني بنت هذي الجبال العاتية؛ درجت في عورها، واكتسبت من صلابتها، ومُرِّنت على قساوتها، ولقيت بين يبابها ما هو أشد هولاً من لقياك. ستجد في هذه الشاخصة أمامك امرأة غريبة تبرز للند، وتقابل الكفء.. تجزيه عن مروءته فضلاً، وعن خسته شرَّ ما يجزى به أثيم. ولست بالمرتابة فيك، وقد شهدت نبلك، أو الخائفة من استدراجك ولو كنت الشيطان!!
|
كان يستمع إليها وفي صوتها هزيم الرعد، وعلى ملامحها سِيمَا الصرامة والجد، وفي حركتها حركات المعتدِّ بنفسه، الواثق من حقيقتها. فما ملك أن أطرق خاشعاً لقوة روحها، وشدة شكيمتها. |
وخفَّت إليه، وشدَّت ذراعه واجتذبته في قوة، إلى ما هيأ في الكهف لاستراحتها وقالت: |
- لست أنا التي يوطأ الوعر لراحتي، إنما لأمثالك المترفين يمهِّد الفَرْش الوثير اللين، وتكفيني حصاة من هذا أنطوي عليها، كما تنطوي العنزة على نفسها بين الصخور!!
|
عمدت إلى كمِّها فشمرته عن زند؛ صُبَّ في قالب مصقول، كأنه مرآة جليت من ليلتها، ثم ضربت بكفيها وانطلقت من الكهف تغدو منحدرة إلى السهل في خفة القطا!!! |
ولم تغبْ إلاّ قليلاً، ثم عادت وعلى رأسها حزمة من الحشيش الجاف والحطب، وفي يدها وعاء طافح بالماء وقالت: |
- إنني حاولت جمعها من بين زوايا الجبل.. جافة لم تمسسها بالماء وابلها.
|
جمعت الحشيش في الجزء الممهَّد، ثم سوَّته بيدها حتى استوى فرشاً وثيراً، ثم أشارت إليه بالجلوس وفي عينيها المتألقتين صرامة الحاكم، وعطفت إلى الأعواد اليابسة تجمعها وتضرم النار فيها، ثم تدنيها بكفها إلى ناحيته، وتأخذ بكفه إليها قائلة: |
- تذوّق لذة الاصطلاء على لهب مستعر في كهف خشن.
|
ودارت على عقبها، فتناولت صرَّتها، وبدأت تأخذ القطعة من الخبز فتغمرها في وعاء الماء، ثم تدنيها من النار وتعمد إلى الواحدة من شرائح اللحم المقدد فتعيد شواءها وتقدّم له لقمة طازجة لذيذة، ومدَّت يدها إلى آنية للقهوة تحتفظ بها في صرتها مع شيء من البن المطحون، فهيَّأت له قهوة يطفو عليها الحباب.. كانت نكهتها وهو يدنيها من فمه شيئاً جديداً، ما تذوقه قبل اليوم في كل ما شرب من قهوة! |
كان كل ما أحاط به غريباً عليه.. تكأة على وثيرة من الحشيش الجاف أمام شواء مرتجل، وقهوة طازجة، في جوف مغارة، بين يدي فتاة جميلة في ريعان الصبا، توليه من عنايتها ما يُدلِّلُه، ومن نضوجها ما يبخر أحلامه في الجمال ويبددها!.. |
كان الليل قد أوفى على نهايته، وبدأت خيوط الفجر تلمع في برك الماء الصغيرة المتجمعة حول الكهف من ماء المطر، وكان الجو خارج الكهف مقروراً، والسماء لا تكف تدرّ في غزارة، فتجتمع المياه بين فجوات الصخور وتجري في جدول منحدرة إلى الوادي في انسياب وصفاء، وفقاقيع الماء ترقص في الحفر المنتشرة على طول انحدار الجبل، في شكل جذاب جميل. |
وخفَّ صاحبنا إلى باب الكهف يستقرئ حالة الجو، فأخذه منظر الطبيعة تلمع في أفقه خيوط الفجر، فأهاب بفتاته أن تشاركه متعة هذا الجمال، فلبَّت سريعة، ووقفت إلى جانبه معتمدة على حجر ناتئ يفصلها عنه، فبدت بقامتها المعتدلة تمثالاً حياً ينطق بالجاذبية والجمال! |
قال وهو يشير إلى سحابة داكنة على الحافة القصوى من الوادي: |
- أظننا في يوم ماطر عتيد؟
|
فأجابت وقد افترَّ ثغرها عن ابتسامة خفيفة رضية. |
- والمترفون يخافون المطر!!
|
قال: |
- وجمل الصحراء، وعنز البادية، وغزال الجبل يتَّقون المطر ما أمكنهم ذلك!
|
فما ملكت أن انفرجت شفتاها عن ضحكة عالية، ثم تكلَّفت الجِدَّ أكثر من ذي قبل، وقالت: |
- وما تعني؟.. أترى هذه البادية، وكم فيها من وضوح وبساطة؟ إنني ابنتها يا صاحبي، واضحة كهذه الشمس المشرقة، رغم السحاب المتراكم، بسيطة بساطة هذه السهول المترامية، فلا تحاول أن تلوي أو تحاجي!
|
- لست ألوِي!.. ولكنك ترتابين..! ولا أحاجي.. ولكنك تحاولين أن تأخذي فكرة عني.. هي أقرب إلى ريبتك منها إلى حقيقتي!
|
- إنك عميق شأن الحضر!.. وإذا شئت فهنا مقيلنا اليوم بين القديد والقهوة.. فكن فصيحاً لأعرف موضع ريبتي، وسأكون واضحة لأتعرَّف مدى عمقك.
|
|