(1) |
صادفها تدلج في هدأة الليل الأخيرة، ملتمسة طريقها بين منعرجات وادٍ من الوديان الكثيرة الملتوية فِي ضواحي الطائف، وصافحت عيناه في ومضة البرق وجهاً كامل الاستدارة، وعينين تأتلقان في محيّا ذابل، وقسمات تنطق بالصبا على جسم ملفوف في ثوب طويل فضفاض. |
كانت خطواتها متزنة رشيقة، تدل في ثباتها على القوة، وفي نشاطها على الصبا، وأرخت عن رأسها صرة فيها شيء من العيش وبعض اللحم المقدد، وجلست بجانبها على شرف في مسيل الوادي.. تقضم محتوياتها في سرور وغبطة ظاهرين. |
وأحسَّت به يسرق خطواته في هونٍ ورفقٍ إليها، فاستشعرت الريبة، وصاحت به في لهجة الغاضب: رح في طريقك يا هذا!! |
ولم يكن شاباً من الطراز الرفيع المتهافت على الخطيئة والإثم.. بل كان مثالياً يسمو برجولته وسمو أخلاقه على الريبة والظن، وتنطوي نفسه على إنسانية عالية قليلة المثال. |
كَبُرَ عليه أن يمضي في طريقه دون إنسانة تنطوي على نفسها، في هذا الطريق القفر، وراق له أن تغضب لريبتها فيه، وأن تستأسد أمامه في وديان ضالة، فحث خُطاه نحوها وهو يقول: |
- سأمضي في طريقي.. ولكني جائع!!
|
- لا يجوع مثلك وأنت فيما تبدو مترفاً، وليس في صُرَّتي ما يتبلغ به مترف، فخذ طريقك! |
- أمّا أن صُرَّتك ليس فيها طعام مترف فصحيح.. ولكني جائع.. والجوع لا يعرف الترف، ثم إني ضال، وفي حكم أبناء السبيل.. وأبناء السبيل إخوان.
|
وشذرت بعينها، ولوَّحت برأسها، كمن يريد أن يقول شيئاً، ثم أشارت إلى ناحية صرَّتها وقالت: |
- إذا وجدت بها ما تستسيغ.. فدونك!!
|
كانت إجابة أبرز ما فيها الاقتضاب، في نبرة منطلقة.. اعتبرها صاحبنا، إذناً بالدنو، وجوازاً بالتغلغل والتعمّق! |
كلاهما ابن سبيل.. هي في انقطاعها في هذه الوديان المقفرة، وافتقادها إلى حجر يؤويها كما ظن.. وهو فيما اختاره لنفسه من التجوّل، والضرب في آفاق الأرض النائية. |
وتألق الجو بومضات من البرق خاطفة، فعكست أضواءها على جبين ناصع غض الشباب، وأنف أقني وسيم، وولولت الريح آتية من الشمال، فعصفت بخمارها فنضا عن شعر مغدودن مرسل. |
واشتد هزيم العاصفة، فاقتلعت شجرةً قويةً في منحدر التل، وألقتها على أحجار كبيرة، فارتطمت بالصخور وأزاحتها، فكنت تسمع لقعقعتها وهي تنحدر في مسيل الوادي، دوياً يثير الرعب ويشيع الفزع. |
وأربدَّ الجو، ودمدم الرعد، وانجابت الغيوم عن هطيل مدرار، سالت به الهضاب والروابي، وانحدر في رعونة وجنون في منعرجات الطريق إلى بطن الوادي. |
انطوت الفتاة على نفسها، وجمعت أطراف ثوبها إليها، تحتمي به من المطر الوابل، وتقدم صاحبنا منها في دعة، وتلطّف يسأل أن تثق بمروءته، وتعتمد ذراعه ليبلغ بها مأمناً يقيها العواصف والمطر. |
ولم يمضِ بها إلاّ قليلاً على حوافي الوادي حتى وجد مأمنها في كهف صغير مرتفع عن الطريق، انتهى بها إليه، وهيَّأ مكاناً لراحتها، وقال وهو يولِّيها ظهره: |
- ما عليك إلاّ أن تنزعي ثوبك الخارجي، وتنشريه على باب الكوخ، ثم تأخذي قسطك من الراحة، وسأتولّى حراستك عن كثب من الكهف.
|
|