(21) |
شعرت ((ليال)) في بيت خالها أنها شبه مستسلمة لقدرها هذا. |
عادت إلى غرفتها القديمة التي تربت بين جدرانها.. تتأمل عيناها النافذة، والستارة، وذلك الخدش في أسفل مرآتها: ما زال منذ تركتها لبيت الزوجية التعيس! |
ألقت جسدها بعرض السرير، وقد عقدت يديها تحت رأسها وهي تحدق في سقف الغرفة.. في جدارها.. في نافذتها، همست: |
- كل شيء في هذه الغرفة لم يتغير إلاّ.. أنا تغيرت، واختفى صوت ((جدتي)) عندما كانت تناديني من خارج غرفتي: تعالي أشربي الشاي.. سبحان الله: الجماد لا يتغير، والإنسان الحي النابض، يتغير.. يختلف.. يموت!! |
ولكن.. لماذا لم يتغير ((حازم))؟ هل فشلت في إعادته إلى جادة الصواب وعلاجه من الإدمان؟! |
لم تُقدِّر مبلغ تأثير هذا الإدمان في حياة ((حازم)) وأخلاقياته، وحتى في تقديره هو لقيمة حياته التي جعل منها أرخص من الرُّخْص بالإدمان! |
- عاد الصدى من أعماقها يسأل: هل كان ((حازم)) مجرد حلم.. لم يكتمل، أو حلم فاسد، أو حلم مغشوش؟!! |
تشعر أن رائحة ((حازم)) في جسدها.. في ضحكتها التي اختطفها منها وغيّبها معها، ولكن.. أين اختفى؟! |
استوت جالسة فوق السرير، وقد نبهها صوت خالها من الخارج، يُذكِّرها بنداءات ((جدتها)) -يرحمها الله- يوم كانت تلحّ في ندائها حتى تترك غرفتها وتجيء إليها. |
وقفت أمام ((خالها)) صامتة.. تهمس: نعم يا خالي! |
- قال: كنت أسمع كلمة ((بابا)) منك قبل زواجك.. المهم، أردت أن أخبرك بخروجي، البيت بيتك، أو هذا هو بيتك الأصلي، سأعود بالأكل معي فلا تُكلِّفي نفسك لا طبخاً ولا كنساً. |
قبَّل جبينها، وخرج.. وهي عادت إلى غرفتها لم تبرحها الأفكار، وتحوطها موجات متلاحقة من القلق والخوف والحيرة. |
- قالت: أنا مالي ووجع الدماغ.. أروح للقاضي ليطلقني منه إن رفض، وعذري معي!! |
- صوت من أعماقها يحاورها: والحب؟!.. هل ترمَّد.. هل مات.. هل تحتملين فراق ((حازم))؟! |
- قالت: الحب.. آه الحب، ولكن: أين هو في قلب حازم؟ وهل ما زال حازم يحس بقلبه وما يملأه، أم ترى قلبه بات فارغاً كفؤاد أم موسى؟.. الأهم عنده من الحب هو ((شمه))، أو حقنة.. وباقي الناس: هباء؟! |
لو كان لدى ((حازم)) قلب.. فلا بد أن يتذكر تضحياتها هي من أجله، وإصرارها عليه، وحربها لتفوز به.. فهل تعود لحازم هذه الذاكرة؟! |
كل شيء فيها يكاد يتحول إلى رماد.. بقايا من نار كانت لاهبة تضيء كل ما حولها، وقد حرصت أن لا تحرق ((حازم))، فحرق هو كل طموحاتها، وحبها، وأحلامها. |
ولكن.. لو أطلّ الآن عليها، فماذا ستفعل به؟! |
هل ستصفعه.. تبصق في وجه رجولته التي خسرها.. تلعن اللحظة التي خفق فيها قلبها بحبه؟! |
هذا هو.. لو أطلّ، ولكن: أين هو الآن؟! |
هذا هو ((الانتظار)) الذي له ألف وجه ووجه.. ألف صوت وصوت! |
ها هي الكآبة تتجسد في ملامح ((ليال))، وحتى في تفكيرها. |
فأي شيء يخامرها.. وتريد أن تنجو منه؟! |
وكيف لها أن تعيش بعد الآن، وقد دمّر ((حازم)) كل شيء جميل فيها وفي حياتها: الحب، الحلم، الأماني، الطموح، الأمومة؟! |
كأنها الآن لم تعد امرأة تصلح لكل ذلك.. لا للحب، ولا للقدرة على الحلم، ولا للطموح نحو حياة أفضل، ولا حتى للأمومة التي تُحوِّلها إلى شعاع من حنان! |
صرخت.. ورددت جدران غرفتها أصداء صرختها: |
- يا ربي.. أرني نورك ليهديني إلى الطريق. |
* * * |
أغفت ((ليال)) منهكة، محطمة النفس.. وقد كانت بحيرتها وأسئلتها، وصرخة الدعاء، تبحث عن طريق يؤدي بها إلى الأمان واستقرار النفس.. ويهديها إلى خطوة تنفذ بها من عنق هذه الزجاجة التي تُشكِّل حياتها مع ((حازم)). |
واستغرقت ((ليال)) في نوم حسبته حين أفاقت رحلة إلى أعماق أدغال متشابكة، لم تكن تعرف من أين دخلت إليها، ولا الطريق الذي سيخرجها منها. |
لم تكن تحلم.. إذ يبدو أن أحلام اليقظة قد استنفذت كل الأحلام في نومها. |
لكنَّ رأسها ما زال يخضع لضربات عنيفة في داخله، كما النقر في صخرة. |
نقرات خفيفة على باب غرفتها.. قامت متثاقلة لتفتح الباب. |
كان ((خالها)) ينتظر خروجها من غرفتها ليحتضنها، ويمسح على شعرها.. وقد لمحت وجهه يستغرق في الصفرة، باهت كقمر خلف ضباب.. وهي تحب خالها أكثر من والدها الذي فرّط في حضانتها، وتربيتها، وتعليمها.. وقام ((خالها)) بهذا الدور الأبويّ الرائع. |
- سألته: خيراً.. على وجهك تعبير مخيف. |
- قال: تعالي.. اجلسي أمامي هنا واسمعيني جيداً. |
- صرخت: هل عثرت على ((حازم)) ميتاً؟! |
- قال: يا ليت.. كان خلصنا ورضينا بحكم ربنا، ولكن يا ابنتي اسمعيني بعقلك، وقد وثقت فيك كثيراً وفي حُسْن تصرفاتك.. أريد أن تهدئي حتى يوفقنا الله إلى قرار حكيم وعادل أيضاً. |
- قالت: تكلّم يا خالي، يا بابا.. لم أعد أحتمل. |
- قال: حازم زوجك.. وجدوه بعد منتصف ليل أمس وقد تكوَّم على رصيف الشارع الرئيسي في وسط البلد، بعض ملابسه ممزقة وعلى وجهه خدوش.. التقطه رجال الأمن، ونقلوه إلى المستشفى، فكان تقرير الطبيب يشير إلى تعاطيه كمية مخدرة كادت تقتله. |
بعد ظهر هذا اليوم.. عرفوا مَنْ هو، وعادوا إلى ملفه، وعرفوا أنه سبق إدخاله إلى مستشفى ((الأمل)) لعلاج مدمني المخدرات.. وكما تعلمين: في المرة الأولى يعتبرون المدمن مريضاً ويتم علاجه حتى ينقُّوا جسده من المخدرات، ويتعافى، ولكن.. إن ضبطوه مرة ثانية فينطبق عليه العقاب بالسجن سنوات، وقد سألت عنه بعد أن طُفت أقسام البوليس والمستشفيات حتى عثرت عليه في أحد أقسام الشرطة.. فلم يقدر أن يرفع رأسه إلى وجهي و.. |
- قاطعته ليال: وهل سألك عني.. هل قال لك رسالة لي؟! |
- أجابها خالها: أنا الذي قلت له بغضب: أنت لست رجلاً، وقد أكَّدت ضعفك.. بعد ذلك سألت الضابط المسؤول عن القسم، فأخبرني أنه سيودع السجن، ويحاكم شرعاً! |
وخيَّم الصمت في هذا المناخ الحزين المأساوي.. ولم تتكلم سوى دموع ((ليال)) التي تلاحقت، وقد التصقت بخالها: منكسرة، مهزومة، ضائعة. |
- همس في أذنها: لا تستسلمي لهذه الهزيمة، أنت أقوى، وما زال شبابك معك، وعلمك الذي درسته وتحصلت على شهادة فيه، وهما كفيلان بأن يكونا مثل ساقين لك، يحملانك إلى الدروب الأكثر اتساعاً، وأملاً! |
* * * |
مسحت ((ليال)) دموعها، ورفعت رأسها إلى خالها تسأله بضعف واستسلام: |
- والعمل أيها الخال/الأب الحنون؟! |
- قال: إذا فكرت بعقل، حتى لا تضيع سنوات عمرك القادم وشبابك مع رجل أناني، ضعيف، مستسلم.. فاعتبري أن ((حازم)) الزوج، والحبيب، والحلم الذي كان، قد مات.. كفِّنيه بين ضلوعك وأهيلي عليه التراب، وأعرف أنه قرار قاسٍ جداً لامرأة زوجة ومُحِبَّة، ولكن يا ابنتي لا فائدة من هذا الشخص.. لقد هوى إلى آخر الدرك، ولا أدري عن عدد السنين التي سيحكمون بسجنه فيها. |
- قالت: هل أطلب الطلاق؟! |
- قال: وسببك معك وبجانبك.. ولا أحد يلومك، ولا حتى قلبك وحلمك! |
* * * |
|