(12) |
عندما كانت ((ليال)) تجادل الأرق في وقوفه الذي يحول بينها وبين النوم كل ليلة.. تجسّد لها ما تعانيه من عذاب! |
أحست أنها فقيرة من الكلمة التي تفتح عقلها، وتهديها الحكمة، والقرار الصائب، وتغسل جوانحها من قتار الحيرة، ومن هذا الفراغ العاطفي! |
كأن حياتها.. قد صادرتها الشجون، وهربت بها نحو نجمة تطلع في نهاية نهار رمادي! |
كأنها في دخول سرمدي.. تخاف أن يُضيّع النطق بالقرار.. بلاغة صمتها الطويل الذي عاشته في ما مضى من عمرها! |
كانت شاردة في هدأة الليل العميق، وقد أشرعت نافذة غرفتها على نور القمر الذي يطوّق وجهها، ويمسح على شعرها الحريري الناعم، المنسكب في جلال على وجهها وخديها! |
وفي هدوء هذا الليل، وصمته.. كانت تحادث نفسها، فترى هذه النفس توأمها الماثل أمامها يحاورها بلا هوادة: |
- قالت لها نفسها: من أنت الآن؟! |
أجفلت ((ليال)).. كأنها لم تطرح على نفسها هذا السؤال طوال عمرها!! |
- همست ((ليال)) لنفسها: لست أدري من أنا.. صدقيني، ولكني أسألك: من أنت يا نفسي؟! |
- قالت نفسها: أنا نصفك الغائب عنك! |
- سألت ((ليال)) نفسها: ولماذا تتركيني وحدي في الحيرة؟! |
- أجابت نفسها: لقد اختلط كل منا بالآخر.. اضطربنا معاً في همومك! |
- قالت ((ليال)): ولكن.. من أنت الآن يا نفسي، أجيبي؟! |
- قالت نفسها: أنا لهفتك على حب عظيم.. يتعذّب به خيالك! |
هوت ((ليال)) فوق سريرها، وصرخت: |
- يا ضالتي.. أشفقي عليّ.. وخذيني! |
انخطرت ((ليال)) في بكاء متقطع، مرور.. حتى سرقها النوم بدموعها. |
* * * |
في الصباح.. هرعت إلى ((جدتها)) تمرغ رأسها في حضنها. |
- سألتها العجوز الحزينة عليها: ماذا بك؟! |
قالت ((ليال)) ولمعان الدمع في عينيها: |
- حادثت نفسي ليلة البارحة حديثاً طويلاً.. طويلاً! |
قالت جدتها وهي تمسح بيديها على شعرها: |
- مسكينة أنت يا بنيتي.. ستصابين بالجنون. |
- قالت ((ليال)): ثم نمت.. فرأيت فتاة تشبهني جداً، كأنها توأمي، ولعلّها نفسي، وهي تجذبني من ذراعي، وتنطلق بي إلى جوف غابة كثيفة نائية! |
ولكني لم أكد أخطو.. حتى ارتعدت فرائصي.. |
تشابكت الأغصان من حولي -يا جدتي- وتكاثفت الأشجار أمامي. |
احلولك الظلام في الغابة.. وسد الرعب في وجهي معالم الطريق. |
أهابت بي تلك الفتاة/التوأم، قائلة لي: تقدمي! |
غمغمت: لا أستطيع! |
قهقهت، وقالت: أكنت تحسبين الحب مرجاً أخضر، تشرق عليه إلى الآن شمس الربيع! |
الحب غابة.. أيتها الفتاة المسكينة! |
غابة أشواك، وآلام، وتضحية.. فرح مجنون بالمجاهدة والصراع! |
قلت للفتاة/التوأم: أرجوك.. أخرجيني من هنا! |
قالت لي الفتاة: مكانك هنا.. حيث مسرح الجبابرة، ومرتع الأبطال.. ألا تريدين أن تكوني بطلة؟! |
سألتها: وماذا أفعل الآن؟! |
أجابتني: كفي عن السعي وراء اللذة الرخيصة التي لا تبعث غير الأسف والاشمئزاز! |
ارتفعي بنفسك، بي، واملئي قلبك بالشجاعة والحكمة، ثم عودي بعد ذلك، واقتحمي غابة الحب!! |
وصمتت الفتاة -يا جدتي- بعد ذلك، ثم اختفت.. احتواها الظلام، وبقيت وحدي عند مدخل الغابة، أرى الحب بعيني، وأسمعه يناديني، ولا أستطيع -من فرط أنانيتي، وخوفي، وجبني، وارتعادي- أن أقتحم الغابة، وأكون بطلة من الأبطال!! |
- قالت جدتها: لك الله يا صغيرتي.. لقد فاضت عواطفك، وفاض قهر والدك وأمك لك! |
- قالت ((ليال)) جدتي.. هل من حقي أن أتزوج الآن؟! |
- قالت جدتها: يوم المنى يا ابنتي.. ربنا يسخر لك عريساً ابن حلال، يسعدك، ويهنيك، وينسيك آلامك وأحزانك. |
- قالت ((ليال)): ولكن يا جدتي.. لا بد أن أكمل الجامعة! |
- قالت جدتها: الجامعة الحقيقية بيت مستقل لك، وزوج يظلل عليك من هجير الحياة وعواصفها. |
* * * |
لم تذهب ((ليال)) ذلك اليوم إلى جامعتها. |
كان جسمها محطماً من السهر، ومن ذلك الحلم الغريب الذي أفزعها. |
اعتصمت في غرفتها تفكر في أبعاد الحلم.. |
فتشت في مكتبتها عن كتاب تفسير الأحلام، وجلست تبحث عن الغابة، والظلام! |
دهشتها التي ما زالت تصاحبها أنها تتذكر فصول الحلم، وحواره بدقة شديدة.. كأنها عاشته في الواقع والصحو. |
استرجعت أصداء صوت ((الفتاة/التوأم))، وهي تقول لها: |
- ((كفي عن السعي وراء اللذة الرخيصة التي لا تبعث غير الأسف، والاشمئزاز!!)). |
ترى.. هل فتاة الحلم/التوأم.. هي تعبير عن العقل الباطن؟! |
هل تعني باللذة الرخيصة محادثاتها الهاتفية مع ((حازم)) وتفكيرها الذي صار يلح عليها الآن بضرورة الالتقاء به وجهاً لوجه؟!! |
في المساء.. هاتفت ((حازم))، وروت له حلمها الغريب، وتفسير كتاب الأحلام، وتفسيرها هي بالخلفيات، ومن الواقع! |
فوجئت أن ((حازم)) يقهقه في الهاتف! |
- سألته: هل أقول لك نكتة؟! |
- قال: والله نكتة.. هل تؤمنين بالأحلام؟!.. لا بد أنه كابوس، نتيجة زيادتك في الأكل! |
- قالت: لا تسخر من فضلك.. إن الحلم يقلقني، وهناك أحلام تصدق، لأن أصحابها لهم شفافية.. أو أنها أحلام ترمز إلى حدث سيقع! |
- قال: المثقفون يتفلسفون! |
- قالت: لست مثقفة، ولا أتفلسف.. ساعدني من فضلك يا ((حازم))! |
- قال: اسمعي.. قد تصابين بالجنون.. لو لم تسارعي بتنفيذ فكرتي! |
- سألته: وما هي فكرتك أيها العبقري؟! |
- أجابها: نتزوج.. أخطبك من خالك، ويضمنا بيت واحد هو غاية الحب، وأعدك أن أجعل أضواءها خافتة، لأحقق لك مناخ الظلام الرومانسي الذي رأيته في الحلم! |
- قالت: أنت سخيف. وغير مبال.. تصبح على خير! |
وحين أقفلت سماعة الهاتف.. راودتها رغبة شديدة في البكاء. |
إنها ((قشة)) تائهة.. تتقاذفها أمواج محيط هائل. |
لا أحد حولها، أو يسمعها ويصغي إلى أفكارها.. أو حتى إلى جنونها!! |
ترى.. هل ستجنّ حقاً؟!! |
* * * |
واقتحمتها -فجأة- خاطرة جنونية. |
ضغطت على أرقام هاتف ((حازم)).. حتى إذا أجابها صوته المتكسر، الواهن، المخدر، قالت له: |
- اسمع يا ((حازم)).. سأراك بعد مغرب الغد. تعال إلى السوق الكبير، وسأذهب معك في عربتك إلى مكان خال نتحدث فيه! |
ولم تنتظر إجابته.. بل أقفلت سماعة الهاتف، وقررت أن تنام!! |
|