(11) |
شعرت ((ليال)) أنّ السهر في عينيها يبدو، وكأنه سرب الصمت الحزين! |
ها هو مشوار الشوق ذو الألف جناح يبدأ في عمرها ((تايحرز المشوار))! |
تردّد أغنية ((فيروز)) المفضلة لديها: سهار بعد سهار! |
تتمنّى أن تُنهي اعتصام السهر في عينيها. |
تحتار.. كيف تبدأ رحلة الشوق، حينما تكون هذه الإنسانة القادرة على خلع قوقعتها.. لتطفو فوق أمواج نفسها! |
تلك لحظة انتباه في حياتها.. إلى شيء يملكها، وتفشل أن تمتلكه.. فتغرق في موجه! |
كان حنينها إلى ملء هذا الفراغ العاطفي.. هو محاولة منها للهروب من ممارسة الحقيقة، بلا لهفة! |
وتعرف ((ليال)) أن واقع الحياة.. لا بدّ أن يملكها بكلّ ما فيه، وأن تقاومه بكل قدراتها على التحدّي، واجتياز الصعب. |
ولكن.. كيف تجتاز هذا الواقع وحيدة؟! |
وعصاها النّوم في ليلتها تلك، بعد أن وضعت سماعة الهاتف، وشعرت بما يشبه الغثاء في نفسها! |
- كيف فعلت ذلك.. خاصة مع شاب لا تعرفه؟! |
هل هو الفراغ حقاً؟! |
هل هو التحدي لوحدتها، ولتخلي أبيها وأمها عنها؟! |
لم تعد تقدر على التفكير! |
كانت حزينة.. وافرة الأسى! |
تخطى عمرها طفولتها.. وتشعر الآن أن هذا العمر ربما تخطى شبابها أيضاً! |
وتتطلع إلى المرآة من جديد: شابة مليحة، ممشوقة القوام كشمعة مكتملة.. أضاء رأسها ولما تذب بعد! |
ميعسبة.. كغصن مخضر، ندي، يستقبل الصباح! |
تبتسم بسهولة وعذوبة، ولكنها تتكلم بأناة وتفكير.. كأنها تستفتي صوتاً في داخلها قبل أن تطرح رأيها، أو قرارها. |
* * * |
قال لها ذلك الشاب ((عابر)) الذي أقدمت على محادثته في تلك الليلة: |
- إنني معك أتحدث باستطراد وبثقة.. ولكني أخاف أن لا تفهميني، أو أن تفسري سلوكي معك بكتابة رقم هاتفي وإلقائه عليك في العربة.. بالمراهقة والتفاهة! |
- سألته: وماذا تسميه إذن؟! |
- قال: صدقيني لا أدري.. ومعك أنت بالذات! |
هي.. ليست غامضة، لكن إحساسها، برغم هجمة الفراغ العاطفي عليها، متريث يُصغي أكثر مما يبوح، ويختزن كل بوح! |
لو أرادت أن تفصح عن مشاعرها المتآلفة.. فإنها لا تفعل أكثر من أن ترسم ابتسامة خفيفة! |
إنها ليست كبقية النساء: تحلم بزوج، وطفل، وبيت له سقف! |
إن حلمها غريب، وشفقي.. |
تحب أن تتأمل الغروب في نهاية اليوم.. |
تحرص أن تتابع الشروق، وهو يضيء الكون مع بداية كل يوم. |
ترسم لوحات اجتهادية في الرسم: وجه طفل. وسامة رجل يبتسم بلا خبث. مرح فتاة شابة. أشعة الشمس. بياض الموج. قرص الشمس المضرج بالغروب! |
ذات يوم، قالت لصديقتها الأثيرة إلى نفسها ((سعاد)): |
- تعرفين.. أريد أن أموت بعد الليلة الأولى لزواجي! |
فزعت صديقتها، وتدوّرت عيناها! |
- قالت لها بفزع: باسم الله علينا! |
- أجابت صديقتها: فلسفتي.. أن هذه طبيعة الإنسان في الحياة.. لا يطيق الفرح أكثر من يوم، ولو تضاعف ليومين.. أصبح اليوم الآخر بارداً، معتاداً، والحياة لا تعطيك أكثر مما تأخذ منك! |
- قالت صديقتها: أنت تتحدثين برومانسية حزينة، ودرامية وربما مغرورة بالأماني الصاعقة! |
إن عقلها ساخن.. بينما قلبها ما زال ينتفض مثل عصفور في ليلة شتاء! |
- قالت ليال لصديقتها: لا تندهشي، وأرجوك لا تكرهيني، فقد ولدت والدمع لا يفارق جفني.. لقد مات أبي من حياتي وهو ما زال حياً يعيش، وكذلك أمي التي هجرتني والتحقت بزوجها الثاني! |
هكذا نشأت ((ليال)).. والفرح أمنيتها الدائمة.. كأنها ((مدام توسو)) في متحف الشمع: لا تتكلم، ولكنها تنبض بجهاز خفي داخل صدرها! |
* * * |
وفي الليلة التالية.. قاومت إغراء الهاتف بجانبها. |
تناولت قرصاً منوّماً منذ بداية الليل، لتنام، وتستيقظ في بداية الصباح نشطة، تذهب إلى جامعتها، وتواصل مشوار تعليمها وحياتها! |
ولكن ((الليل)) يؤرقها، ويغرقها في الوحدة، والأصداء. |
وكأن هذا الشاب المجهول ((عابر)) هو الذي ظهر في ليلها، ليملأ فراغها العاطفي! |
ولذلك.. لم تصمد طويلاً! |
طلبت رقم هاتفه بعد ثلاث ليال من المقاومة. |
- قالت له في البدء: اسمع.. لا تظن أنني من الفتيات الهاويات للعبث، وللتسلية، لذلك.. أرجوك أن تحدد ماذا تريد مني بالضبط؟!! |
- قال عابر: اسمي ((حازم)) وليس عابر، وأدرس في الجامعة، ولكن.. على مهل، وحتى الآن أمضيت أكثر من خمس سنوات داخل الجامعة، وتلقيت إنذاراً بالفصل واجتزته، وألغي الإنذار. |
- قالت: لماذا لا تتحمس لمستقبلك، وتتحصل على شهادة تنفعك؟! |
- قال ضاحكاً: وبعد أن أتخرج.. هل لديك وظيفة لي؟! |
- قالت: حاول أن تجد العمل مثل كل الشباب الذي تخرّج! |
- سألها: أين هي الوظائف؟! |
- قالت: اتعب، وواصل البحث، المهم أن تحصل على الشهادة قبل كل شيء! |
- قال: أبي يصرف عليّ.. يغدق عليّ، ولا يجعلني أحتاج إلى السؤال، والتعب، فهو موسر، وناجح في عمله. |
- قالت: هذه نغمة الشباب الإتكالي. |
- قال: اسمعي.. إن أبي يريد أن يزوّجني، وتلح أمي معه، حتى قبل أن أتخرج من الجامعة.. فما رأيك؟! |
- قالت: في أي شيء تطلب رأيي؟!.. هذه حياتك الخاصة! |
- قال: أعرض عليك الزواج! |
- قالت: أنت في غياب وعيك.. لا أعرفك، ولا تعرفني! |
- قال: أنا مبسوط الآن جداً، ولكني أعرف ما أقول.. وبدلاً من أن يختار لي أهلي عروساً بالإكراه، فأنت جميلة، وبنت ناس، وفي الجامعة. |
- قالت: أنت مجنون! |
- قال: إنه عصر الجنون.. فكّري في عرضي، ومن حقك أن تجلسي معي في البداية، وتفحصني نظراتك، ويفحصني عقلك الذي أتعبك من التفكير، والأسئلة.. وأنا أقبل تحدي اختبارك! |
- قالت: أنت تتكلم بثقة.. برغم إحساسي أنك في غير وعيك! |
- قال: قلت لك إنني مبسوط جداً. |
- سألته: وما الذي يفرحك إلى هذه الدرجة؟! |
- أجاب: أشياء قليلة، محدودة، معروفة عندي. |
* * * |
عذّبها التفكير في هذا العرض الغريب والجنوني من ((حازم)) الذي كان يدعي أن اسمه ((عابر))! |
كأنه أراد أن يحزم معها في اتخاذ قرار. |
ولكنها لا تعرفه بحق.. ولا تثق أبداً بهذه البداية التلفونية! |
والفراغ يحتويها، ويمتصها، ويجففها. |
والفقد الذي عاصرته في حياتها منذ طفولتها.. يتضخم في وجدانها، وشجونها، حتى رماها في هذه البقعة الضحلة!! |
* * * |
|