شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(10)
هذا الفراغ العاطفي.. هو الخطر الأكبر الذي داهم حياة ((ليال))!
بعد خذلان والدها لها، في لحظة التقائها الأول به، وتعرّفها عليه.. ومروراً بالأيام التي عاشتها غريبة في بيت أبيها، لا تكاد تحس بوحدة دمائها مع دماء ساكنيه، إلاّ مع أختها ((دلال)).. بذلك التمازج السريع الذي حدث بينهما، وعودتها إلى بيت خالها، وفي حضن جدتها، وانغماسها في الدراسة.. أحسّت أن ذلك الفراغ العاطفي، في هذه المرحلة الخطرة من يفاعتها وشبابها، يتمدّد في لياليها وأيامها، وفي شجونها وأحلامها!
شعرت أن شيئاً يضطرب في داخلها!
ربّما كان ذهنها، ربما كانت خطواتها، ربما كانت نظرتها إلى الحياة والأحياء بدون تفريق!
شيء يضطرب دفعة واحدة، وبلا توقيت!
كأنها في هذا الإحساس تفقد إمكاناتها الواعية.. فلا تقدر أن تتحكّم في ما اضطرب داخلها!
وتكاد تلمس ((قلبها)) بأصابعها..
لقد قيل: إنه القلب يضطرب بميعاد.. حينما يقتحمه الحب!
وتضطرب نفس الإنسان في لظى الانتظار للموعد، وللفرص، وللنجاح، وللحلم!
وتضطرب حياة هذا الإنسان.. في لحظة الضياع، عندما لا يكون للصدى ضرورة، ولا فائدة!
وتحاول أن تقارن بين حياتها، ودلائل الاضطرابات هذه!!
وتقذف الكتاب من بين يديها.. كأنها تتذكّر ذلك ((الميعاد)) الذي اضطرب فيه قلبها، وقد ظنّت أن الحب يقتحمه!!
كانت تنتظر كلام الثواني!
وكانت الثواني في حياتها ((مبلّمة)).. مذهولة!
ويخيّل إليها أن صوتاً ينبعث من داخلها.. هو صوت ذاتها، يردد:
- إنني شريحة من مجتمع هذا العصر.. تشابهت ثوانيّ وساعاتي مع ثواني وساعات الأحداث في العالم.. فشعرت أن الاضطراب ليس حالة، وإنما هو حصيلة جرائم، وانحرافات، وقلق، وتفشي الذاتية.. حتى فقدت متعة التفكير، وملاحقة نبضي.. وضاع من صدري ما يمكن أن يوصف بأنه معجزة الخفق، وحلاوته!!
* * *
وتكاد -ثانية- أن تلمس ((قلبها)) بأصابعها..
تريد أن تحميه، وتسوّره من هذا الاقتحام المسدد إلى فراغ العاطفة فيه، وإلى هذا الظمأ الذي يشقق خفقاته!
((جدتها)): امرأة عجوز، شبه مقعدة، يصعب عليها الوقوف، والمشي، والتحرك.. وسمعها يضعف، وحتى بصرها أيضاً!
و ((خالها)) رجل يعاني هو الآخر من الفراغ العاطفي. وتصميمه على تأجيل اقترانه بامرأة مستمر، طالما أنه يحب أمه بهذا الالتصاق، ويكره أن تأتي زوجته، فتهين أمه!
وهو يحاول أن يتهرب من فراغه العاطفي، بالاستغراق في العمل، وفي خدمة أمه، والسهر على راحتها، والترويح عن نفسه في لقاءاته مع أصدقائه!
هكذا تتضح الصورة التي تتوسطها ((ليال)).. فهي تكاد أن تكون سيدة هذا البيت، والمتصرفة في إدارته وأموره.. حتى في أمور خالها أيضاً!
كل الذي يعذبها: أن ((خالها)) قد منحها ثقة مطلقة في التصرف، وفي الخروج والدخول، وفي إدارة البيت، وفي الهاتف!
الهاتف!!
التفتت ((ليال)) إلى هذا الجهاز القابع في غرفتها ساكناً، كأن الخرس قد أصابه!
حدقت فيه طويلاً.. فإذا هي تبتسم، كأنه -في تلك اللحظة- يتخذ شكل فتى أحلامها!
- همست في شرودها: التليفون.. الرقم.. الورقة، أين الورقة؟!
قفزت من منتصف سريرها.. كأن أفعى لدغتها، وتناولت حقيبة يدها الصغيرة.. تفتش في محتوياتها عن ورقة صغيرة، قذفتها بداخلها ذات مساء باستهجان، وبعدم اكتراث!!
ها هي الورقة..
نشرتها تحت عينيها، وقرأت رقم الهاتف، والاسم: ((عابر))!!
ابتسمت.. فلا بد أن هذا الاسم مستعار وغير حقيقي.
ولكن.. لماذا اختار اسم ((عابر))؟!
ألقت رأسها على حافة سريرها، وأغمضت عينيها.. تسترجع تلك الوقفة:
بعد مغرب يوم، مضى عليه أكثر من أسبوعين.. استأذنت ((خالها)) الذي يدللها كثيراً في الاستحواذ على السيارة والسائق، لتذهب مع بعض صديقاتها إلى السوق!!
كانت مع صديقات ثلاث.. يشكلن باقة من فتيات ناهدات الشباب، والصبا.. يتجولن في الأسواق الحديثة، والمعارض.. ليبتعن ما يعجبهن، ويتفسّحْن!
أمضين أكثر من ساعة في التجوال، والمشاهدة، في زحام السوق، والنساء، والفتيات، والرجال، والشباب الذي يتسكّع مثلهن لتزجيه الوقت.
وحين همّت بدخول سيارتها مع صديقاتها.. فوجئت بشاب يقترب من باب السيارة، ويقذف بتلك الورقة الصغيرة نحوها!
اضطربت، تلفتت من المفاجأة، لترى وجه الذي قذف بهذه الورقة!
سمعت صديقاتها يتضاحكن.
- سألتهن: هل تعرفه واحدة منكن؟!
- قالت الأولى: وكيف نعرفه، وقد ألقى بالورقة عليك؟!!
- قالت الثانية: لقد اختارك أنت من دوننا!
- قالت الثالثة: لاحظته يتعقبنا منذ دخلنا إلى السوق، ويدخل وراءنا إلى كل معرض ودكان!
صمتت ((ليال)).. وهي تستذكر وجه الشاب، فقد رأته يلاحقها مع صديقاتها.
إن ملامح وجهه تكاد تنطبع في عينيها.
وراودتها نفسها عدة مرات، في ليال متلاحقة بعد ذلك أن تطلب رقم هاتفه.. ولكنها تصد الرغبة.. تجفل من الفكرة، ورادع خفي يمنعها أن تُقدم على هذا التصرف الخطر.
* * *
الليلة هي تتقلّب على فراشها، قلقة، متوترة، كئيبة النفس!
- تساءلت: لماذا لا أتسلى.. فهو لا يعرف من أنا؟!
دفعها شيطان الرغبة، وتراكمات الملل والفراغ العاطفي.. إلى أن تخوض تجربة لم تتذوقها من قبل، وبالتالي.. لا تقدر أن تحسب أبعادها، ونتائجها!
جذبت الهاتف إلى حضنها، وطلبت الرقم:
- آلو.. أنت اسمك ((عابر))؟!
أجابها صوت متوان، مكسر النبرة:
- نعم.. فمن أنت؟!
- قالت: إحزر.. لمن أعطيت رقم تليفونك؟!
- قال بسخرية: ياه.. لعشرة، فمن أنت منهن؟!
- قالت: لعلّني العاشرة!
- قال: إذن.. صفي لي شكلك.
- قالت: عليك أن تعرف شكلي من صوتي.
- قال: الصوت خداع.. ربما بهذا الصوت الجميل، لك وجه قبيح!
- قالت: أنت وقح، ولا تستحق أن أعطيك من وقتي!
- قال: مهلاً، لا تغضبي، ولكن.. اسأليني من أتمنى من العشرة؟!
- قالت: سألتك.. فأجب!
- قال: سبحان الخالق.. تلك التي رأيتها قبل أسبوعين تتسوق، ولديها سيارة زرقاء!
- قالت: أنت ذكي جداً.. فهل توقعت أن أطلبك؟!
- قال: أنا.. لا ترفضني أي بنت!
- قالت: أنت مغرور، وتافه.. إذا كانت هذه أفكارك.
- قال: أردت أن أستفزك.. ألم أقل أن الزعل ممنوع؟!!
- قالت: ما هو اسمك؟!
- قال: كما قرأته في الورقة: ((عابر))!
- قالت: أنت تكذب.
- قال: وما اسمك أنت، حتى نتعارف!
- قالت: ولماذا تريد أن نتعارف؟!
- قال: لأنني أعجبت بك.
- قالت: افرض أنني لم أعجب بك!
- قال: فلماذا اتصلت بهاتفي إذن؟!
- قالت: أنت لا تعرفني.. فكيف أعجبت بي؟!
- قال: وجهك.. آه وجهك جذّاب جداً، ويدل على هدوئك، وأنا أحب الهدوء، ولاحظت حركاتك في السوق!
- قالت: يا سلام.. بهذه السرعة؟!
وامتد الكلام بينهما، بهذا المستوى من السُّخف.. حتى شعرت ((ليال)) بالملل، وبالإرهاق.. بعد مضي أكثر من ساعتين!!
- قالت له أخيراً: شكراً لأنك منحتني هذا الوقت، بعد أن كنت أشعر بالملل، وفرصة سعيدة!
- قال: لحظة.. أرجوك، أريد أن أسمع صوتك باستمرار، أشعر بانجذاب غير عادي إليك.
- قالت: بهذه السرعة؟.. إنك متعجل جداً.
- قال: أرجوكِ.. إنني سعيد جداً هذه الليلة.. فهل أنتظرك غداً؟!
أقفلت الهاتف، دون أن ترد عليه.. كأنها أحسّت بشيء يلزمها وهي خائفة، مندهشة: كيف أقدمت على هذا التصرف؟!!
لكنها هذه ((الشريحة)) في مجتمع.. يحتاج إلى معالجة أخطر شيء في صميم حياته.. وهو: الفراغ العاطفي!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :482  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 132 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.