(9) |
مرّغت ((ليال)) رأسها في صدر خالها وجدتها.. |
كأنها -أخيراً- قد اهتدت إلى الطريق.. بعد ضياع وشتات في صحراء قاحلة. |
لم تكن تريد أن تتلفت إلى ذلك ((الخلف)) الذي عادت منه، أو لعلّها ركضت هرباً منه! |
صار والدها هو ((الخلف)). |
وصار بيت خالها وجدتها.. هو ((الأمام))! |
وعندما همّت بتقبيل والدها، ثمّ مصافحته وهي تودعه.. قالت له: |
- ها نحن، أنت وأنا، نعود غرباء.. كما كنا! |
ولم يجبها.. وإن كانت قد لمحت دمعة تجول في عينيه، ويكبح جماح انزلاقها! |
إنّ المواقف الغريبة التي حدثت لها معه خلال نصف شهر فقط.. أكدت لها أن هذا الرجل المسمى ((أبوها))، غير كفء لحمل شرف الأبوة! |
كانت تفكّر في أختها ((دلال)) بحيرة، وخوف! |
أرادت أن تقترب من أخويها ((حسام)) و ((طارق)).. لكن أمهما حالت دون هذه المشاعر الطبيعية! |
واكتشفت أن ((حسام)) العشريني، والقريب من سنها.. لم يكن شاباً سوياً، بل ((صائعاً))، لم يجد من يشد رسنه، ويوجهه.. فالأم تفيض عليه -وهو البكر لها- من الدلال والتدليع، حتى انفلت من عقاله، وصار يسهر الليل، ويجلب صحبة إلى صالونه الخاص به، وقد وفرت له أمه كل وسائل الخدمة، والراحة، وما يطلبه. |
إنه يدخن أمام أمه.. ويزجر أباه أحياناً على مسمع من تجمّع العائلة. |
والأب لا يدري شيئاً.. بل هو غارق في سكره، وسفرياته المتعاقبة، وركضه وراء الثروة والصفقات! |
عادت ((ليال)) أكثر حيرة، وشروداً، وخوفاً من المجهول! |
في الليلة الأخيرة لها في بيت والدها.. قال لها هذا الأب: |
- أستطيع بالشرع أن أضمك إلى عائلتي، وأحبسك هنا في هذا البيت، فأنت ابنتي، وأنا مسؤول عنك! |
- قالت له: تستطيع يا أبي.. ولكن قبل ذلك، لا بدّ أن تشعرني بحبِّك، وأن تمنحني الأمان، وإلاّ أضعتني للأبد! |
واحتد الحوار بينهما.. فصرخت ((دلال))، ربما لأول مرة مع أبيها، قائلة: |
- من فضلكم.. اتركوا أختي لحياتها، لم تعد صغيرة! |
وذهلت ((ليال)) من صلابة منطق أختها، وجرأتها.. رغم صغر سنها، ومحدودية تجربتها. |
لكنها قفزت نحوها واحتضنتها. |
وبقيت صورة ((دلال)) في مخيلة وذاكرة ((ليال)) منذ تلك اللحظة، حتى بعد أن عادت إلى بيتها الحقيقي، في كنف خالها وجدتها. |
* * * |
روت لجدتها ما وصفته لها بأنه: محنة النصف شهر!! |
- قالت لها جدتها: كيف تصفين لقاءك بأبيك بأنه محنة؟! |
- قالت: لو شاهدت ما عانيته، وما صبرت عليه.. صدقيني يا جدتي أنني لم أجد أبي.. كان شخصاً آخر غريباً عني، بل كان الغريب حتى عن عائلته تلك. |
- قالت جدتها: احكي لي.. ماذا فعل لك؟! |
- قالت: ((يوه)).. ماذا أحكي، وماذا أصف، ولكن.. تصعب عليّ تلك الزهرة النضرة: أختي دلال. |
- قالت لها جدتها: صفيها لي.. هل هي جميلة مثلك؟! |
- قالت: بل أحلى يا جدتي.. رقيقة مثل نسمة، حنون، عطوف. خائفة ومذعورة.. رغم الرياش، والأثاث الفاخر، والسيارة الجديدة، والفساتين الغالية جداً، وتعلق أمها بها.. لكن البنت ناضجة قبل الأوان. تقرأ في غرفتها بنهم، وتؤلمها سلوكيات ((الأب)) المنحرف. |
- قالت جدتها: يا بنت.. لا تنسي أنه والدك! |
- قالت: هذه مصيبتي.. ليته لم يكن والدي. |
ويتواصل الكلام بين ((ليال)) وجدتها.. كلما التأم شملهما مع خالهما على مائدة الغداء أو العشاء. |
وتكبت ألمها الذي تضاعف.. خاصة بعد أن عادت من زيارتها لوالدها، وطلبته بالهاتف، لتخبره بوصولها، وتسأله عن ((دلال)).. فأجابها يومها: |
- أنت مستواك بيت خالك بالفعل.. أما ((دلال)) فليس لك دخل بها. |
وأقفل سماعة الهاتف في وجهها.. ولم يحاول الاتصال بها بعد ذلك اليوم! |
لكن ((دلال)).. وجدت في أختها متنفساً، وصديقاً، وصدراً رحباً يحتوي شجونها، وعذابها.. فكانت تحادثها عدة مرات في الأسبوع، وتقول لها: |
- لن تتضايقي مني يا ((ليال)) إذا طلبتك دائماً؟! |
وقالت ((ليال)) لجدتها، وهي تمسح دمعة ساخنة: |
- هذا هو المكسب الذي عدت به من زيارتي لأبي.. لقد كسبت ((دلال)) أختاً، وصديقة، وخسرت أبي للأبد! |
وأضنتها أفكارها.. كلما شردت بها بعيداً إلى هناك، حيث بيت والدها.. وهي تتخيل أختها في واقعها المقلق، وتتخيل ((حسام)) الأخ الذي عاملها بجفوة، بطباع أبيه، وبكراهية أمه، وبانحرافات ونزق شبابه.. في غياب رعاية الأب، وتوجيهه! |
* * * |
وتلفتت ((ليال)) حولها.. |
إنها منزرعة في هذا الحقل الضعيف جداً! |
((خالها)) يصر على تأجيل اختيار زوجة ورفيقة عمر له، خوفاً من أن تأتي امرأة، وتسيء معاملة أمه.. وهو مرتبط بها مثل جذع شجرة. |
والعمر يتقدم به.. ويكاد يتجاوز منتصف الأربعين. |
أحياناً تجابهه بموقفه المتعنّت والمتعنّد.. وتلمح في عينيه بريق الحيرة الكامن في الأحداق. |
إنه رجل يحتاج إلى زوجة، ورفيقة مشوار، وبيت يصنع له استقرار الحياة! |
ويحتاج إلى أبناء، يحملون اسمه، ويواصلون ذكراه. |
ومعاناته أشد، وأكثر ألماً.. |
لكنه رجل صابر، وصامت، وكتوم جداً.. تضبطه أحياناً في ركن صالون المعيشة، وهو يدخن سيجارته بعصبية.. شارد الذهن، ولكنه ما إن يسمع صوت أمه الواهن، وهي تسعل.. حتى يقفز من مكانه كالذي لدغه ثعبان، ويهرع إليها.. يسقيها الماء، والدواء، ويدلّك قدميها ويديها بتفانٍ ملحوظ! |
و ((جدتها)).. تنحدر بها الشيخوخة إلى العجز، والثقل، وتراكم الأمراض عليها.. لكنها تنشط، وتبرق الحياة في عينيها، كلما جلست ((ليال)) بجانبها.. تقدم لها كيفها الذي أدمنته (الشاي) برغم نصائح الأطباء لها بالتقليل منه. |
إنها تبدو سعيدة جداً، بمجرد أن تعود ((ليال)) من الجامعة، تتقافز أمامها، وتقول لها: |
- كيف حال بركتنا؟! |
ولا بد أن تستمع ((ليال)) كلما عادت من الجامعة، إلى شكوى ((جدتها)) المتجددة كل يوم: |
- اليوم.. شعرت بنخر في ضلوعي، حتى كادت أنفاسي تضيع. |
- اليوم ازداد ألم ساقي، وزحفت إلى الحمام لأتوضأ. كم مرة قلت لخالك أن يأتي بسباك لعمل ((بزبوز)) واطي، قريب من متناول يدي، وأنا جالسة! |
نفس الشكاوي، وحكايات المرض! |
ولا تملّ منها ((ليال)).. بل كانت تحنو عليها، وتقبّلها. |
وحينما تأتي من الجامعة.. تتوجه إليها، قبل استبدال ملابسها، وتسألها: |
ها.. ما أخبار الساقين، والضلوع؟! |
تعايشت ((ليال)) مع هذه الحياة التي أحبَّتها بجوار ((جدتها)) التي كفلتها، وتولت تربيتها بدلاً من أمها وأبيها.. وفي حنان ((خالها)) الذي يقول لها دوماً: |
- تريدين لبن العصفور.. حاضر! |
وتنساب الدموع من عيني ((ليال)) وهي تسترجع كل تلك المواقف وشكل الحياة التي امتزجت بطباعها، وبنكهتها. |
ولكنها تشكو -فوق ذلك- من الفراغ العاطفي! |
التعويض عن أمها، وأبيها، ورابطة العائلة الواحدة. |
وحاولت أن تتفوق على هذا الشعور بالفراغ العاطفي.. بانخراطها في الدراسة، وعشقها للقراءة، وانشغالها بالتحصيل العلمي، وهدفها: أن تجتاز المرحلة الجامعية، وتنال شهادة في يدها: أمان من الفقر، كما تقول دائماً لزميلاتها!! |
ولم يفلح انشغالها هذا في إبعاد الشعور بالفراغ العاطفي.. وقد أخذ شبابها ينضج ويبلورها أنثى مكتملة، ساخنة! |
حتى داهمها الخطر الأكبر!! |
* * * |
|