شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(7)
هذه اللحظة، كانت تتوق إليها منذ سنوات بعيدة!
حلمت بهذه اللحظة.. تخيلتها بألف صورة، وصورة أحلى..
ورغم قصر المسافة من مدينتها، إلى المدينة التي يسكن فيها أبوها.. فقد تمدد الوقت، يمزق لهفتها، ويكوي تحفزها للقاء أبيها.
حتى هبطت الطائرة، بعد ساعة ونصف الساعة، على مدرج المطار.. فوقفت قبل كل الركاب، و ((خالها)) يمسكها من عباءتها لكي تجلس، وتهدأ، وتنتظر فتح باب الطائرة.
لم تتحمل كل هذه الدقائق.. ركضت أمام ((خالها))، تتدافع مع الركاب.
- قالت لخالها: أنت تعرفه جيداً.. أرجوك لا تشر إليه، بل اتركني أميّزه عن جميع الواقفين في استقبال القادمين.. لكي أندفع نحوه وأحضنه.
وحرصت أن لا تأخذ معها ملابس كثيرة، ولكن حقيبة صغيرة في يد ((خالها)) كانت تكفي فستاناً لها، وقميص نوم، وبيجامة لخالها.
وما زالت تركض.. تركض، إلى بوابة المطار الداخلية، ولم تستخدم السلالم الكهربائية، بل كانت تطوي السلالم العادية إلى صالة الحقائب.. إلى البوابة التي تخرج منها إلى حيث يقف المستقبلون.
هناك توقفت، وهي تلهث..
تلفتت في كل اتجاه..
حدقت في كل الوجوه.. وبعض الواقفين يتأمل هذه الفتاة التي أسفرت عن وجهها واحتشد الشوق في عينيها، واختلطت الأسئلة، بالنداء، بالبحث عن تينك العينين.
و ((خالها)) يمشي بجانبها.. تكاد تطفر الدموع من عينيه.
- التفتت نحو خالها قائلة: ألا ترى أبي يا خالي؟!
- لا يا ابنتي.. هدّئي من روعك، معنا عنوان البيت.
- كيف.. كيف لا يستقبل ابنته في المطار؟!
- الغائب.. عذره معه!
- أي عذر يا خالي.. أنا ابنته؟!
ووقفت أمامهما عربة أجرة.. فتح بابها الخلفي ((خالها))، وقال لها:
- اركبي، واهدئي.. سنعرف بعد قليل، وسترين والدك.
لم يأت ((الأب)) لاستقبال الابنة التي هجرها يوم طلق أمها، وهي طفلة صغيرة.
كيف لا يكون متلهفاً عليها، ولا يأتي؟!
وفي مقعد عربة الأجرة.. كانت ((ليال)) تعاني من كثافة الخسارة في أعماقها، ومن هذا الإحباط الذي منيت به من والدها.
والعربة تنهب بهما الطريق الطويل من المطار إلى المدينة.. والحسرة تفتت نفس ((ليال)) وعواطفها.. وقد أفسحت للدموع مجراها على خديها الأسيلين.. دون أن تكبحها، أو تمسح آثارها.
وامتدت ذراع خالها، تضمها إلى صدره، وهو يهدئ من روعها، ويهمس في أذنيها:
- لا تكبّري الموضوع.. والدك رجل أعمال كبير، ومشاغله كثيرة.
- قالت: أليس عنده -على الأقل- سائق، يقلّنا إلى البيت؟!
- قال: وكيف يعرفنا السائق، وكيف نعرفه؟!
- قالت: أليس عنده ابن كبير، هو أخي.. ليستقبلني على الأقل؟!
* * *
عند بوابة ((الفيلا)) الداخلية.. رأت ((ليال)) رجلاً طويلاً، عريض المنكبين، أسمر البشرة، حاسر شعر الرأس الذي يميل أكثره إلى البياض، وهو يقف كأنه يسد بوابة البيت.. لئلا تدخلها ((ليال)).
ولكزها ((خالها)) في جنبها، هامساً لها:
- أخيراً.. هذا هو السيد ((محمود الخليلي)).. والدك!
وشعرت ((ليال)) ببرودة غريبة تسري في جسدها.. كأن دمها قد تجمد، ولسانها قد انعقد.
واغرورقت عيناها بالدموع، قهراً.. لا شوقاً، وقد تحولت إلى بلهاء.
كل الأحلام التي نسجتها في ليلتيها الأخيرتين قبل لقاء والدها، تبخرت في هذه اللحظة.. لأنها لم تتحقق، أو فسدت بسبب مفاجأة المطار!
ووقفت ((ليال)) أمام والدها لحظات.. تتطلع إلى وجهه، وتحدق في ملامحه.
رأته يقف مثل سد منيع، راسخ.. يرسم على شفتيه ابتسامة عرفتها من اللحظة الأولى.. ابتسامة المجاملة، والمداهنة، والزيف!
- عجباً.. ألست ابنته من لحمه ودمه؟!
هاجسها هذا الخاطر، وهي تقترب منه أكثر، فأكثر.
احتراقها من أجله.. قابله بهذه اللامبالاة الموجعة لها.
تلهفها على ضمة قوية من ساعديه وصدره.. قابلها هو بتصرف أوّلي حين تقدمت نحوه لتحتضنه.. فأبعدها عنه برفق!
ذهلت للوهلة الأولى.. قالت لنفسها:
- ربما لأنه لم يستطع تحمل هذا الموقف!!
لو أنها قصّت هذا الموقف على مسامع أي إنسان، فلا بد أن لا يصدقها!
إذن.. هذا هو ((الحدث)) الآخر أمامها، وهي أمامه وجهاً لوجه!
هذا هو والدها.. بكل هذه القسوة، والجمود!
ضاع مجهودها كله.
تبددت أحلامها.. وقد صدمت في أعز وأغلى إنسان في حياتها: صدمة عمرها الأقسى!
تمنت -في تلك اللحظة- أنها لم تره أبداً.
تذكرت -أيضاً- تلك الصورة التي حاولت أمها أن تنظفها في مخيلة ابنتها، كلما كانت تسألها عن أبيها، برغم خلافاتهما الدائمة والعنيفة.. فتقول لها:
- أبوك رجل طيب في داخله.. لكنه انفعالي، وعصبي ومتهور.
فكيف يتصرف الإنسان الطيب بهذه القسوة، ومع من.. مع ابنته؟!!
* * *
وفي داخل صالون الضيوف.. رمت ((ليال)) نفسها داخل ((الكنبة)) مهدودة من التعب النفسي، وكأن عطشها قد ازداد أكثر، وتشققت به نفسها، وقلبها، وفرحتها، وأحلامها.
كانت تواصل التلفت في أرجاء البيت، وفي وجوه سكانه.
رأت والدها صامتاً.. يتلفت مثلها، وكأنه يقيس مشاعر زوجته وأبنائه.
التقت نظراتها بنظرات ((خالها)) القابع داخل ((الكنبة)) في الطرف الآخر.. كأنه يرجوها أن تتحمل، وتصبر، وتهدأ أيضاً.
صدّت دموعاً تتماوج في عينيها.. لأنها لا تريد أن تبكي الآن، أمام هذا الحشد الغريب الذي لا تعرفه!
من مستوى أثاث البيت، والخدم العاملين بداخله.. تعرّفت على النعمة التي ترغد حياة والدها، وهي التي تعيش في بيت خالها، الذي أضرب عن الزواج من أجل رعاية أمه -جدتها- في تلك الحياة المتواضعة التي قنعوا بها.. دون أن يفكر والدها يوماً ما، فيبعث إليها ولو بهدية سنوية، إذا تجاوزت ((ليال)) امتناعه عن الصرف عليها، والتكفل بحياتها في بيت خالها.
كادت تطلق صفيراً من بين شفتيها، وهي ترى مخايل هذا العز.
وفجأة.. سمعت صوت والدها -لأول مرة!- مرتفعاً بحياء، أو ربما بخوف من زوجته، وهو يدعوها قائلاً:
- تعالي هنا يا ((ابتسام)) لتري ((ليال)).
أين حسام، وطارق، والبنوته الحلوة دلال؟!
- همست ((ليال)) لنفسها: ما شاء الله.. إن والدي بطريقة غير مباشرة يعرّفني بأسماء عائلته الكريمة.
لكنها -رغم كل هذه المشاعر المضادة- مشتاقة أن ترى أخويها، وأختها!!
- ترى.. كيف تكون ملامحهم.. كبار أم صغار؟!
تعرف عن الولد الكبير -فقط- أنه في العشرين، ولم تكن تعرف اسمه!
والتفتت نحو ((خالها)) تدعوه، قائلة:
- خالي.. تعال هنا بجانبي.
وهمست في أذنه، وهو يأخذ مكانه بجانبها:
- تعال.. لا تتركني وحدي حتى لا أخطئ، ودعنا نتفرج!
- قال لها: اسكتي يا ثرثارة.. مهما كان، فهو والدك، وهؤلاء إخوانك.
ودخلت زوجة والدها ((ابتسام)): امرأة في مطلع الأربعينات، نحيلة، لم يؤثر فيها الحمل، ولا الولادة لثلاثة بطون. جميلة الوجه، متكبّرة.. ربما بتأثير هذه الثروة، وعابسة بالتأكيد لاستقبال ((ليال))، ولكنها حاولت أن تصبغ شفتيها بابتسامة تخلطها بـ ((الروج)) الفاقع، وبكثافة المكياج الذي أحال وجهها إلى ألوان الطيف.
كادت ((ليال)) أن تضحك، لكنها حبست سخريتها، بعد أن ضغط خالها على يدها.
وحينما دخل أخواها وأختها.. قفزت نحوهم، مندفعة بعفوية، لم تقدر أن تضبطها، واحتضنت كل واحد من أخويها، واحتضنت أختها، وأخذتها من يدها قائلة:
- تعالي هنا بجانبي.. أنا أختك!
ودوت كلمة زوجة أبيها.. رداً عليها، قائلة باستعلاء:
- دلال.. عندها أخوين.
استشاطت ((ليال)) والتفتت إلى أبيها، كأنها تقرعه:
- وأنا يا أبي.. ألست ابنتك، والا بنت الجارية؟!
والتقط ((خالها)) خيط الحوار، ليتلافى الانفجار، وقال لوالد ((ليال)):
- طيب يا أخ محمود.. أستأذن أنا. هذه ابنتك عندك، وسأكون في الفندق، عندما تقرر ((ليال)) العودة، أخبروني!
خرجت ((ليال)) خلف ((خالها)) تسأله خائفة:
- هل تتركني هنا وحدي.. في هذا الجو البغيض؟!
- قال لها: أنت مع والدك.. اضبطي أعصابك وحاولي أن تكسبيه!!
ثم.. كانت -بعد ذلك- المواجهة الأهم بين ((ليال)) وأبيها!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :460  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 129 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الخامس - لقاءات صحفية مع مؤسس الاثنينية: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج