شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(6)
ترى.. ماذا كان رد فعل انتظار ((ليال)) لرد أبيها على رسالتها؟!
أحرقها الانتظار.. فالدقيقة التي تمر عليها، كأنها ساعة.. واليوم الذي تنطفئ شمسه، كان يخلّف في نفسها الحسرة، والإحباط!
كانت ترتقب رسالة من أبيها، جواباً على رسالتها التي كتبتها بدموعها، وبحرمان بنوّتها من أبوّته.
وفي المساء العاشر، بعد ذهاب رسالتها.. كانت تجلس أمام ((جدّتها)) تجهز لها الشاي الذي تعودت أن تشربه بعد أن تفرغ من أداء صلاة المغرب.
- سألتها جدتها: أما زلت تنتظرين أن يرد أبوك؟!
- قالت ((ليال)) بنبرة حزينة: خلاص يا جدتي.. نسيت حتى الانتظار.
فجأة.. رنّ الهاتف، وكأنّ ((ليال)) لا تسمعه.
هناك شيء ما.. غائر في أعماقها، صار يفصل سمعها، وانتباهها عن كل ما حولها.
- قالت جدتها: التليفون يا ابنتي.. ألا تسمعين رنينه؟!
- أجابت بصوت تمتحه من كهف نفسها: دعيه يرن.. لا بد أنها ((زينب)) صديقتي، ولست على استعداد الآن ((للرغي)).
- قالت جدتها: قومي يا ابنتي، وردّي.. ربما كانت محادثة مهمة.
بتثاقل قامت ((ليال))، وتناولت سماعة الهاتف.. لتفاجأ بصوت رجل من الطرف الآخر، يقول لها:
- هل أنت ((ليال))؟!
- نعم.. فمن أنت؟!
- ألم تتعرفي على صوتي.. أنا ((محمود))!
- من محمود؟.. من فضلك كفّ عن هذا الأسلوب السمج!
- أنا محمود.. والدك.
- (صرخت): أبي.. حبيبي يا بابا، كيف حالك.. وحشتني.. اشتقت إليك.
تحشرج صوتها بالبكاء.. بينما كانت جدتها تفغر فاها، وهي تحاول أن تزحف من مكانها، وتتكىء على ذراعيها.
- قال لها: كيف حالك أنت؟!
قالت: أنا بخير يا أبي.. أريدك.. أريد أن أراك، عطشانة إليك!
- قال: مبروك النجاح ((يا ليال)).. وصلتني رسالتك أمس، وكنت مشغولاً، وحرصت أن أكلمك اليوم.
ما هذا يا بنت؟!.. أنت تملكين أسلوباً بارعاً. لقد أثّرت رسالتك عليّ. فرحت بنجاحك. برافوا، طالعة لأبيك.
- قالت: أريد أن أراك يا أبي.. لم أعد أحتمل فراقك، سنوات طويلة لم أرك فيها، لقد كبرت، وصرت عروساً يا أبي.
- قال: ما شاء الله.. وأنا أيضاً اشتقت إليك. المهم أنني اطمأنّيت أنك بخير. انتبهي لنفسك.
لم يطلب منها أن تسافر إليه فوراً.
لم يسألها متى تستطيع أن تحضر إليه ليراها.
شعرت أنه يتهرب من هذا الطلب/الأمنية بالنسبة لها.
أفهمها أنه مشغول جداً، والتزاماته كثيرة.. مع أنها توسلت إليه في رسالتها أن ينتزع نفسه من مشاغله فيأتي ليراها، ولو ليوم واحد.. أو يسمح لها أن تسافر إليه لتراه!
- قومي الآن.. وامسحي دموعك، وصلّي ركعتين لله.. أشكريه سبحانه وتعالى أن أعاد إليك والدك.
رفعت ((ليال)) رأسها إلى وجه جدتها الذي غضنته السنون، وقد ارتسمت على ملامحه معاني الحنان.
- قالت: هل تظنين يا جدتي أن أبي قد عاد إليّ؟!
- قالت جدتها: نعم يا ابنتي.. ألم يتصل بك؟!
- قالت: أشك أن أبي قد عاد إليّ!
- سألتها جدتها: وما الذي يجعلك تشكين بعد هذا الدليل؟!
- قالت: نبرة صوته يا جدتي.. طريقة كلامه، أحسست أنه يؤدي واجباً، أو لعلّ رسالتي أحرجته بمنطقها، وبتدفق عواطفي من بين سطورها.
- قالت جدتها: وربما أنّبه ضميره يا بنيتي!
- قالت: لا أدري يا جدتي.. إنني خائفة جداً من هذا اللقاء.. أشعر وكأني فرضت نفسي عليه فرضاً قسرياً.
ولم ينته الحوار بينها وبين جدتها.. فإنه حدث عمرها كله.
جلست تصف لجدتها طريقة كلامه، ونبرة صوته، وإحساسها ببرودة كلماته، وهي متدفقة معه في الفرح بصوته، وباتصاله.
أخذت تعيد على مسامع جدتها محادثته كلمة، كلمة.. كأنها جهاز تسجيل التقط المحادثة بدقة متناهية.
وعندما يبلغ التعب بها مداه.. تلتفت إلى جدتها، تسألها:
- أعيدي وصف وجهه، وقامته، ولونه، وضحكته، وغضبه، وانفعاله.
- تقول لها جدتها: يا ابنتي.. صورته لديك، لا بد أنه كبر في السن قليلاً، وامتلأ جسمه أكثر.. لكن طباع الإنسان لا تتغير!
وأحسّت أنه بعد تلك الدقائق الراكضة والقليلة، يريد أن ينهي المحادثة بينهما، وأنه قد اطمأن عليها.
لم يسألها: كيف تعيش.. كيف حال جدتها، وخالها؟!
لم يحاول أن يشجعها لكي تطلب منه أي شيء.. ولا حتى مصاريف كسوتها ودراستها، وقد صارت شابة، وتدرس في الجامعة.
وتجمعت في أعصابها إرادتها، ودفعتها رغبتها في أن تضع حداً لهذه المهزلة التي صُدمت بها.. وأن تضغط على أعصابها، وتفرض نفسها على أبيها فرضاً وبالاعتساف لتهرّبه.
وفاجأته، وهي تتصل به بعد أن وضع سماعة الهاتف، قائلة له بحزم:
- أبي.. سآتي إليك بعد غد، أردت، أو لم ترد!
وظهر لها اضطراب صوته، من خلال النبرة والكلمات.. لكنه كان يبدو كمن أُسقط في يده، ولم يعرف ماذا يقول لابنته التي فارقها وهي صغيرة.. وهجرها، وقاطعها، حتى شبت عن الطوق، وتبلورت الفتاة، أنثى، متعلمة.. تضنيها هذه المسغبة في حرمانها من عطف وحنان أبيها!
ونجح ضغطها عليه، بعد محاولات، وإصرار منها.. فقال لها بصوت متردد:
- لا بأس.. سأكون في انتظارك!
* * *
ألقت سماعة الهاتف، وهرعت إلى صدر ((جدتها)).. ترمي رأسها الصغير عليه، وتنشج باكية بصوت مرتفع.
احتواها ساعدا جدتها اللذان سكنهما وهن الشيخوخة، والمرض، وآلام التجارب الطويلة في سني عمرها الموغل بها نحو النهاية.. وأخذت تربت على ظهرها بيديها الضعيفتين، وهي تداري دموعها عن حفيدتها التعيسة.
- قالت لها: لماذا البكاء الآن؟!.. لقد سمعت صوته، ولا بد أن تفرحي بمحادثته التي تدل على أنه اندفع بمشاعر أبوّته وحنانه إلى طلبك بالهاتف.
- افرحي يا صغيرتي.. فقد أثّرت رسالتك في قسوته، حتى رقت لها عاطفته.
- تسألها ثانية: ماذا تقصدين؟!
- تقول جدتها: أقصد أنه مهما كان.. فهذه الحقيقة التي تؤكد أنه والدك، لا تلغي أبوّته لك، فدماؤك من دمائه، وبعض طباعه فيك.
- تسألها: مثلاً.. قولي ما هي طباعي التي منه؟!
- تبتسم جدتها قائلة: الانفعال على سبيل المثال.
وتخلد ((ليال)) إلى الصمت، والشرود.. ثم ما تلبث أن تلتفت إلى ((جدتها)) لتطرح أسئلة جديدة عن أبيها، وتحدثها عن حواره بالهاتف، وتصور لها مشاعر الخوف حين تلقاه لأول مرة!
كيف تندفع إليه، لتغرق وجهها، ودموعها، وخفقة قلبها في صدره، وبين ذراعيه؟!
كيف يتلقاها حين يراها لأول مرة.. هل يحتضنها.. هل يفرح بها أم تجد في ذراعيه نفس برودة صوته ونبرته عندما حادثها؟!
* * *
لم ينقذ ((جدتها)) من هذه اللهفة، والأسئلة، والخوف.. إلاّ عودة ((خالها)) إلى البيت.
تركت ((جدتها)) في مكانها، وقفزت نحو خالها تحتضنه كطفلة غرة، تخبره بهذا الحدث العظيم في حياتها.
وأجلست ((خالها)) أمامها.. وأعادت على مسامعه الحكاية بتفاصيلها. شريط مثير من انفعالاتها ومرحها، وقلقها.
ولكن وجه ((خالها)).. كان هو الآخر متلفعاً -في ما خيّل إليها- بفتور.
- قالت لخالها: اعذرني فهذا أبي.. أعرف ما فعله بأختك وبكم، وحتى بي من هجر بعد ذلك.. لكنه أبي، فأريده بإصرار.
- قال خالها: أنا معك وبأمرك.. أنفذ كل ما ترغبين وأحققه لك.. الحلو يُصدر أوامره. والخال مستعد. فماذا تريدين؟!
- قالت: تحجز لي ولك بعد غد، أو في الغد، وتأخذني لأرى أبي!
- قال خالها: وجدّتك.. لمن نتركها؟!
- قالت: تصرف.. قل لخالي ((حسن)) أن يأتي بزوجته، ويجلسا مع جدتي!
ولم تنم ((ليال)) ليلتها تلك..
أغمضت عينيها فوق وسادتها، وأقلعت بخيالاتها، وأحلامها.. تتصور كيف سترى والدها، وكيف ستروي ظمأها من حنانه، وماذا ستقول له، ويقول لها!
تتصور.. كيف ستلتقي بإخوانها وأخواتها من أبيها؟!
كيف سيقابلونها.. وهل أخبرهم والدها بأن له ابنة تكبرهم، ولا بد أن يحبوها؟!!
كانت تتقلب على فراشها بين التعب والراحة..
حتى جاء موعد الرحلة.. وهرعت برفقة خالها إلى المطار تحثّه على السرعة بالعربة، والركض في المشي.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :453  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 128 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.