شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(5)
كان الليل في هدأة أفكار ((ليال)).. هو مجداف نظراتها!
كانت القلوع قد انتشرت فوق نفسها الإنسانية، التي أرهقها انحراف المزاج، وعصفت بها تقلبات التقبل لمعايشة الذين أحبتهم، لأنهم أهلها، والدماء التي تجري في أوردتها.. فإذا شجونها الآن في سرمدية الليل، قد أفعمت أعماق النفس!
وفي هذه الهدأة من الليل.. تسترجع نفس ((ليال)) شيئاً من الأصداء والذكرى، والحنين.
ذكرى حياتها التي تقلبت فيها على الجمر منذ طفولتها، وحتى هذه اللحظة من نهدة شبابها.. وهي تفتش عن ((وجود)) أبيها في حياتها، وظله/الخيمة على مساحتها، ليقيها من هجير صحراء عمرها، ومن لفح رياح الأحزان والآلام!
وحنينها الدائم، والمتعاظم إلى أمها البعيدة/القريبة.
كانت الذكرى.. هي البحر الذي ابتدأت رحلتها بالتأمل فوقه..
وكان الحنين.. هو المجداف الذي كسرته العواصف، والصواعق!
وانعكس صمت الليل على محيا ((ليال)).. وكأنها ترحل بنفسها، وبشبابها المبتلي بالخيبة، إلى التنقيب عن عمق الدراما في أغوار النفس، وفي تجربة الحياة، وفي طبيعة هذا العصر المادي، والقلق.. الذي يفرّق بين الأب وابنته، وبين الأم وبيتها وأولادها!
كانت نفس ((ليال)) تشبه تلك المعاناة التي اكتسحت قلب ((أوريديس)) الذي تعلم معنى المأساة!
وبعض القلوب الإنسانية.. تحيا بالدراما العنيفة، دونما قلب تنتمي إليه!
هكذا صحبت ((ليال)) أحزانها، وقلبها، وحياتها من صخب المدينة، وركض الناس، وضجيجهم، وتناقضاتهم.. إلى هذا التأمل في هدأة الليل!
إنها تسترجع الآن ذكرى والدها، وحكايتها معه!
* * *
لقد هجرها أبوها من قبل أن يراها.. حين كانت رضيعة!
لم يكن يزورها، أو يسأل عنها.. منذ طلق أمها، واحتضنتها جدتها في بيت خالها.
سنوات طويلة مرت.. لم يرها والدها سوى مرة واحدة، حين كان عمرها سنة!
ساعة واحدة فقط.. ولها مناسبة أيضاً!
وكانت المناسبة سيئة.. إذ حملتها أمها معها إلى المحكمة، يوم ذهبت للحصول على ورقة الطلاق!
إنها تسترجع الآن ذكرى والدها، وحكايتها معها!!
وتمتد أصابع ((ليال)) بقلمها فوق أوراق كراسة مذكراتها، لتكتب:
- ((من يصدق هذه الحكاية.. حكاية طفلة، ثم شابة مع هجر أبيها لها؟!
هل يُعقل أن تحدث هذه القصة في مجتمع مترابط، يحافظ على القيم، وتماسك الأسرة، وجذور العواطف؟!
عشت حياتي كلها، وحتى الآن، وأنا أفكر في ذلك المجهول الغامض الذي يُدعى أبي!
وكلما كبرت.. كبر معي إحساس بالحرمان، وبأن شيئاً مهماً لا بديل له، ينقصني، ويجعل حياتي غير متكاملة، وبغير ملامح، ولا معنى.
سنوات طويلة مرت.. منذ طفولتي، وإلى بلوغي سن الشباب والنضوج، وأنا لم أعرف وجه والدي إلاّ لمدة ساعة واحدة.. كنت فيها طفلة لا تميز، ولست قادرة على حفر ذاكرتي!
ومع ذلك.. أستحضر وجه أبي، وأجسده أمامي، وألمسه، وأجد نفسي غير قادرة على تقبيله، واحتضانه!!)).
* * *
ولم تعد تحتمل هذا الوضع الكئيب..
بدأت ((ليال)) تبحث عن والدها.. تتسقط أخباره.
بكت ذات ليلة -قبل عام- على صدر جدتها، وهي تقول بإصرار وحِدَّة:
- أريد أن أرى أبي.. حتى وإن كان لا يريد هو أن يراني!
- قالت لها جدتها: أبوك يا ابنتي في العاصمة. اكتبي له إن شئت.
راقت الفكرة لها.. كأنّ ذهنها في تلك اللحظة يضيء!
أمسكت بقلمها وأوراقها.. وكتبت أول رسالة إلى ذلك المجهول، الغامض، الذي يُدعى: ((أبوها)):
- أبي..
ياه.. ما أكثر اشتياقي إلى ترديد هذه الكلمة..
ما أشد احتياجي إلى أن ألوذ بهذه الكلمة.. أتعلّق بها، وأحتضنها، وأقبّلها.
ترى -يا أبي- هل أنت مشتاق مثلي إلى سماع هذه الكلمة: أبي؟!
أم أنك تستغني عنها مني.. ويعوضك أبناؤك من زوجتك الثانية؟!
ألست ابنتك يا أبي؟!
تراك هل نسيت أن لك ابنة، طلقتَ أمها منذ عشرين عاماً؟!
هل تنسي السنون عاطفة الأب لابنته؟!
أين أنت؟!
بل.. ألا يهمك أن تسأل: أين أنا؟!
أن تسأل: كيف أعيش أنا ابنتك؟!
أرجوك -يا أبي- لا تظن أنني أكتب إليك بحثاً عن الفلوس، أو لإرغامك على القيام بمسؤوليتك تجاه ابنتك التي رميت بها قبل عشرين عاماً للضياع، والنسيان، وللجحود!!
لا يا أبي.. لا أريد فلوسك، وقد سمعت أنك أصبحت ميسوراً، بل مليونيراً!
إنني أريد -فقط- أبوّتك، وحنانك، ووجهك، وصوتك، وحضنك.
ترى -يا أبي- هل انكمش حضنك وصغر، فلم يعد يستوعب ابنة لك، هي ((بكريّتك)) وأولى ثمرات شجرتك الآدمية، الإنسانية؟!
يا أبي.. إنني أموت اشتياقاً لك، وحسرة عليك.
إنني أتعذب من إهمالك لي.. وقد ظننت أنك كلما تكبر في العمر، كلما يترقرق قلبك أكثر، فتحنّ إلى ابنة نسيتها، وقذفت بها إلى العاصفة والصاعقة لتحرقها وتنسفها!
هل كنت تتوقع أن أكتب لك؟!
لأنني ابنتك.. لم أعد أطيق هذا الإهمال منك.. فارحم أبوّتك، من حقد البنوّة!!
* * *
وأقفلت ((ليال)) الرسالة بدموعها.. وبين سطورها صبّت صرخة ألمها، وحرمانها، وهذا الانتظار الذي دام عشرين عاماً.
كتبتها بإحساس يشتعل شوقاً وحناناً، وبقلب مجروح.
حاولت أن توقظ في صدره غريزة الأبوة المتجمدة نحوها.
حاولت أن تجعل رسالتها الإفاقة لإحساسه المغمى عليه!
وحينما قرأت الرسالة على ((جدتها)) بكت بشدة، ورفعت كفها ضارعة إلى السماء، تدعو على أب، فقد إحساسه بالأبوة!
وكان انتظار ((ليال)) لرد فعل والدها مرهقاً، عصيباً.
بقيت ترتقب وصول رسالة من والدها.. يرد فيها على ندائها، وصرختها، وعذابها.
كانت تتمنى لو عرفت رقم هاتفه، لتتصل به، وتسمع صوته، وتسأله عن وصول رسالتها، وهل سيرد عليها؟!
إنها عطشى إلى صبابة من نهر أبوّته.
تحسب الدقائق، وتلكز الساعات.. لعلّها تشفي غلتها الصادية.
وفي كل يوم.. تستقبل خالها عند باب البيت، تسأله السؤال اليومي نفسه، منذ بعثت رسالتها:
- ألم يصل الرد؟!
وتجد الجواب على وجه ((خالها)) البارد في ملامحه وتعبيراته، الحزين جداً على انتكاس أملها وترقّبها!
وبعد خمسة أيام، تقلبت فيها ((ليال)) على جمر الانتظار.. جاءها الرد من أبيها!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :438  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 127 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.