شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(4)
تتبخر تأملاتها في هدأة السحر..
تنسلخ بعيداً عن صخب السهارى في ليالي الفرح.. لتقترب كثيراً إلى نجوى المتبتلين!
تنظر إلى هذا القمر.. غير تلك النظرة إلى غاسق إذا وقب، بل إلى ضياء تستمده من إيمانها بما هو مقدر ومكتوب عليها.. وهو الضياء الذي يغسل أعماق نفسها بالراحة.. في كل أوجاعها، وأنين روحها.
رحلة حياتها في فكرتها.. تتبلور اقتناعاً بالانطلاق إلى تأمل شاسع، وإلى وصول إلى اليقين ذات يوم.
ولكنّ السؤال الذي يراودها دائماً.. يعصف بها كلما تمركز في رأسها:
- إلى أين الإبحار؟!
لا بد أن تقفز فوق اليأس، والإحباطات في حياتها، وتنطلق نحو التفاؤل الذي ينعشها!
التفاؤل في كل انتظاراتها.. يشكل لوناً من المعاناة أيضاً.
إنسان هذا العصر ما زال ينتظر الأحلام والأماني، وما ينفكّ يتشبّع بمقولة: ((الذي يأتي ولا يأتي)).. في حين أن الحياة بهيولتها، وإغراءاتها، وأمانيها.. من الممكن أن تصبح ((برشامة)) صغيرة!
- فإلى أين الإبحار؟!
يبدو هذا السؤال في حياة ((ليال)) كما مصباح عامل السكة الحديد، الذي أيقظه صوت القطار.. عيناها مضرجتان بالسهاد، ويفزعها الشيء القادم من الفجاءة!
* * *
لقد أمضت ((ليال)) أيام إجازتها في بيت زوج أمها كسيرة، مهيضة الجناح.
لا تفارقها الصورة الأخيرة لوجه ((أمها)) وهي تودّعها.. كأنها لن تراها بعد هذه المرة!
لا تفارقها صورة ((إسماعيل)) -زوج أمها- وهو يشيح بوجهه عنها، حين مدّت يدها لتصافحه في لحظة رحيلها!
لكنها في قرارة نفسها.. كانت تشعر ببعض الارتياح، لأنها ثأرت، بمقدرتها الضعيفة، من زوج أمها.. بعد أن أصغت إلى حواره الفظ مع أمها في الليلة الأخيرة!
كانت تحضن أمها إلى صدرها.. وتبكي نفسها المُتعبة جداً.
اغتنمت فرصة خروج ((إسماعيل)) من البيت، لتهدئ من أحزان أمها.
وحين عاد.. رأى هذا المشهد الذي يضم الأم والابنة، وكان ثملاً يترنّح.
اغتاظ من مشهد الحب الأسمى.. فأخذ يتحرّش من جديد بزوجته، ويصبّ عليها جام غضبه وشتائمه المقذعة!
ولم تتمالك ((ليال)) نفسها في حموة سبابه، وإهانته لأمها.. فقفزت نحوه، ودفعته بقوة إلى منتصف المكان، وانهالت عليه ضرباً!
ضربته بكلّ ضعفها، ومهانة أمها وانكسارهما معاً.
- قالت له: أنت حيوان، انعدمت منك الإنسانية.
أنت مدمن تستحق الحياة بين جدران أربعة، وقضبان.
وأخذت أمها إلى غرفة أخرى، تمسح دموعها.. بينما بقي ((إسماعيل)) في مكانه متهاوياً، مهدوداً بالسُّكْر.. يرتسم الذهول على محياه، وهو يحاول أن يجأر بصوته المبحوح المتهالك، متوعداً:
- تضربينني أيتها الصبية الشقية.. سأقتلك أنتِ وأمّك!
وأوصدت الباب من الداخل عليها وعلى أمها.. خوفاً من تنفيذ ((إسماعيل)) لتهديده لهما.
لكنه سقط هو الآخر في مكانه.. يعاني من التخدير، ثملاً، ضعيف القدرة.. يصدر صوتاً مجروحاً، وناقماً، وحاقداً.
* * *
ولم تنم ((ليال)) في ليلتها تلك..
بقيت بجوار أمها، تحضنها، وتهدئ من روعها.. حتى أشرق عليهما الصباح.
وتسللت ((ليال)) بأمها إلى خارج البيت.
حملت معها حقيبة ملابسها إلى بيت الجيران، في عمارة ملاصقة.
تحدّثت ((ليال)) مع جار أمها، وهو رجل في الستين من العمر، وقصّت عليه الحكاية كاملة، وتهديد ((إسماعيل)) لهما بالقتل، وهو في حالته: ثملاً، مخدّراً.
هدأ الرجل الطيب من انفعال ((ليال)) ومن آلام أمها.. وطلب منهما أن يمنحاه فرصة التفاهم مع ((إسماعيل)).
ومضى النهار بطيئاً، بارداً.
وبعد الظهر.. دخل جار أمها، يحادثهما من وراء الباب مهموماً.
- قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله -لم ألتق في حياتي برجل شرس مثل هذا- اسمعي يا ابنتي. لقد طلّق ((إسماعيل)) أمك.
شهقت ((أم ليال)) وضربت على صدرها، صارخة، باكية.
- قالت ((ليال)): لا تبكي يا أمي.. تعالي معي إلى بيت خالي وجدتي.. بيت أهلك أولى بك.
- قالت أمها: وأولادي الأربعة من ((إسماعيل)).. كيف أتركهم لقسوته وجبروته؟!
- قالت ((ليال)): أولادك سيعرفونك، ويسألون عنك.
- قالت أمها: لا يا ابنتي.. يكفي ما حدث لكِ أنتِ، فهل تريدين مني أن أكرر الغلطة نفسها؟!
- قالت ((ليال)): لكنها غلطته وغلظته.. وقد طلّقك، فكيف تعيشين معه؟!
- قالت أمها: هو مكلّف بأن يصرف عليّ وعلى أولادي الأربعة منه.. هذا بيتي، وعليه هو أن يخرج منه، ويسكن في مكان آخر!
* * *
ولم تفلح محاولات ((ليال)) مع أمها، لاصطحابها إلى بيت جدها وخالها.
أخذت تقنعها وقتاً طويلاً، وأمها ترفض أية حلول.. إلاّ أن تبقى بجانب أولادها الأربعة، مهما كانت النتائج وشكل الحياة، وآلامها.
وفي اليوم التالي.. جاء ((إسماعيل)) إلى بيت جارهم يحادث أم أولاده.
- قال: لقد كنت في حالة غير طبيعية، وأريدك أن تعودي إلى البيت، فالأولاد يسألون عنك.
- قالت له: ولكنّك طلقتني، فكيف أعود؟!
- قال: كنت ثملاً، وكانت طلقة واحدة.. وقد أعدتك إلى عصمتي.
- قالت: وهل أنا لعبة يا ((إسماعيل)).. ألا تكفّ عن هذا ((الهباب)) الذي تتناوله، وتحسن من معاملتك معي؟!.. لقد أشعرتني بالذل والمهانة.
- قال: عودي إلى بيتك، ولكن.. ابنتك هذه لا أريدها، فهي سبب كل مشاكلنا.. عندما تزورنا تشعل البيت خصاماً، وناراً.. وأنا لا أريدها. فلتذهب إلى والدها!
وهكذا.. أصبحت رؤية ((ليال)) لأمها: حلماً لا يتحقّق.
لقد أبعدها انفصال أبيها عن أمها وهي طفلة.. وحرمها زوج أمها منها وهي في أمس الحاجة إليها، وفي هذه المرحلة الحرجة من حياتها!
وتراكمت أصداء السؤال الدائم عليها:
- إلى أين الإبحار؟!
تشعر أنّها ضائعة.. في لجّ بحر متلاطم الأمواج.
حتّى ذكرياتها.. بهتت، وتلاشت في هذا الانكسار المتلاحق على حياتها، وعلى عمرها الغض.
ووراء ضربات مجداف العمر التي توغل بها في متاهات الحياة، بحثاً عن القرار، وتبعد بها عن الحيوية، والتوقد والرؤية.. لا تقدر أن تبحث عن الذكرى، ولا أن تتأمل خطوات العمر، ولا أن تتحكم بالذي يأتي!
إنّ هذا التيه.. يعني لها الفقد لمباهج عمرها، ويعني لها أن الذكرى تبهت في الضياع!
إنّها تبحث عن شجاعة الروح.
تتأمل.. لتكتشف أن الروح الحائرة، دائماً ما تتشبث بهذا الحوار المضني مع الحياة، ومع الأحياء.. وقد تستغرق أحياناً في التأمل البعيد.. ولا تصل إلى قرار!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :534  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج