أيها الفرح الكاسر |
في فمي صخرة.
|
كلما أوجعتني: مضغْتُ شواطئها
|
وبَريْتُ بأضراسها شفَتَي
|
وإذا هي لانَتْ
|
رميْتُ فمي
|
وتركت لساني يفتُش
|
عن صخرة ثانية!
|
|
عبد العزيز المقالح -صنعاء |
|
أيها الفرح الكاسر: |
أنا -هذا الإنسان- المطوّح ما بين السلاح والحرب.. ما بين الحب والحقد.. ما بين الاكتشاف والفقد.. أجد أسئلتي تكثر هذه الأيام! |
طويلاً.. نازلت دموعي! |
جاهرتُ بمواسم ((الصيف)) وهجيرها في معاناتي! |
طويلاً.. ضحكت، بكيت.. خرست، توهجت.. ترمَّدت، أضأت! |
فماذا كان بعد كل تلك اللحظات، أو ((الانتظارات)) المتحركة، والمصلوبة؟! |
الحصان: لن يصبح بغلاً! |
الذبابة: لن ترضى أن تكون أرنباً.. فهي التي تقتل ((الفيل)) من عينيه!! |
طويلاً.. لن يكون في عالم الإنسان أجنحة تطير به إلى حيث ((السلام)) الرغيد.. من أجل الحضارة، والثقافة، والحب! |
ولكن..!! |
سريعاً جداً.. سيكون للإنسان ألف وسيلة وتبرير، لكي تنفطر شموسه! |
وبعد قليل.. سيكون حقد، وتكون حرب بعد الظهر! |
وبعد قليل.. ستكون ((تفاهة)) هناك: في عقول الذين ينتظرون الليل، ليلعبوا الورق، و ((الباسرة))، ويرددون آخر نكتة -فقط- من أجل أن يضحكوا!! |
هل -حقيقة- أننا بتنا لا نفكر أبداً؟! |
- جواب يسأل: ولكن.. إذا كنّا لا نفكر، فما هذا الذي نفعله؟! |
- سؤال يجيب: نحن نمضغ أصواتنا.. ونبصق بعد ذلك وثوبنا! |
هل الإنسان فكرة، أم قضية؟! |
- أحياناً.. يبدو هذا الإنسان وكأنه ((مناسبة)) مريحة.. وأحياناً أخرى، لا تكون المناسبة في تقبُّل جيد لها!! |
- لماذا هذا الحزن؟! |
- لأن الإنسان فقد أبعاده! |
الفكرة: ضاعت في الاضطرار. |
القضية: سقطت في التآخي المتقدم نحو المصلحة، أو مجموعة المصالح! |
المناسبة: لا يملكها الإنسان.. فإن كانت مريحة، جعلته يتبلَّد، ويغط في سبات عميق.. وإن كانت في غير ذلك التقّبل الجيد لها، فإن ((الاهتمام)) -لحظتها- لن يكون اختياراً للضعف، وإنما هو الوقت، والدوافع والاحتياج!! |
* * * |
يا أيها الراكض نحو الفرح الكاسر.. يا إنسان! |
يقال -اليوم- إن عدوى الانتحار انتقلت من الإنسان حتى وصلت إلى الطيور! |
وتكاد أسباب انتحار الإنسان أن تكون بديهية، أو لعلّها مرهونة بهذه الأزمات النفسية، وشدة الاحتياج، والعجز، وشراسة الرغبات، والمصالح!! |
لكنّ الطيور.. لماذا تنتحر؟! |
في الهند.. أفادت وزارة الثروة المائية والغابات: أنْ طريقة انتحار الطيور، هي الأكثر دهشة وعجباً من معنى وسبب انتحارها.. فهي تقذف بنفسها فوق مصابيح القرى، أو نيران المعسكرات، ولا تلقى مصرعها فوراً، بل تحتمل النار.. أو أنها لا تأكل، وتموت جوعاً في الأقفاص!! |
فهل أصبحت ((الطيور)) تعاني من الكآبة، أو الاكتئاب، بعد الإنسان؟! |
إنّ الطيور تمتلك حرية أوسع وأرحب من الحرية التي يدَّعيها الإنسان لنفسه.. والذكور من الطيور تبدو ألوانها زاهية أكثر من إناثها، بعكس الإنسان!.. وتبدو ((أمْيَل إلى العِراك، وأقدر على التغريد))!! |
ولكنّ المفاجأة: أن الانتحار يتم من ذكور الطيور!! |
فهل ذكورها غاضبة من إناثها.. أم أنها شعرت بالملل منها؟! |
كانت الطيور تهاجر، عندما تسأم الموقع، وعندما يضايقها المناخ.. |
وهذه الهجرة تأتي منظمة وذات أسباب.. وعلى سبيل المثال، هذه المعلومة: |
- ((السلمون يهاجر من البحر إلى النهر، ليتزاوج! |
وثعبان السمك يهاجر من المياه العذبة إلى المحيط الأطلنطي، وتعود السلاحف إلى البحر، لتضع البيض!)). |
والسنونو.. يهاجر إلى حيث الربيع دائماً! |
وكان أحد المهتمين بدراسة حياة الطيور، واسمه ((وليم راون)) قد أجرى تجارب قديمة على طيور ((الجنكو))، وكتب بعد ذلك يقول: |
- ((إنّ المنبه الخارجي الأساسي، وهو تغيُّر طول النهار، مصحوباً بتغيُّر في مقدار النشاط.. يؤثر على الأعضاء التناسلية، وأحياناً يسبب الكآبة عند الطائر!)). |
فهل أصبحت الطيور تشكو من طول النهار، أم أنها تعاني من رهبة الليل؟! |
لقد قال المعمّرون في قرى الهند: |
- إنّ أول مرة لاحظوا فيها إقدام الطائر على الانتحار، كانت في عام 1905م، ثم عام 1948م، و 54، و 70!! |
وعلّل الخبراء هذا التصرف، بأنه كان بسبب التغيير المفاجئ في الضغط الجوي! |
والإنسان اليوم -بكلّ فزعه- يفكر في المتغيرات التي تحدث في طبقة الأوزون، وفي الغلاف الجوي، والضغط الجوي!! |
فهل ما ينعكس على الناس الآن.. يرتبط بتلك المتغيرات؟!! |
* * * |
يا أيها الفرح الكاسر: |
وما زلت أستطرد وراء وقفات لها صوت مؤثر.. طرحها المفكر الفرنسي ((جاك بيرك))، وتوقّفت أمام عبارة قالها، وأحاول أن أرى مضمونها بوضوح: |
- ((ضياع الإنسان.. هو بين ماضٍ لا مصير له، وبين مستقبل لا ماضٍ له!!)). |
إنها عبارة تنزف تعب الإنسان، وترصد فرحه الكاسر! |
إنها عبارة ترفع رأسها.. ويدير الإنسان رأسه عنها، بحثاً عن الشمس، والكيان، وقاعدة الوقوف، والثبات على مبدأ! |
إنها عبارة حافلة بالضوء.. تندقّ في السمع كالدقيقة الحرجة، الموغلة في يوم الإنسان، ومعاناته، وشجونه، وخوفه، وتفاؤله! |
فكيف هو الماضي الذي لا مصير له؟!! |
لقد أضاع الإنسان -إذن- كل ما بناه، وارتكبه، ورسمه، وقاله، وعذّبه، وأنجزه؟! |
فأين ذهب الماضي؟! |
لقد كان -بكل ما فيه!- مثل كرة من نار، طوّحتها يد الإنسان في مسافة بعيدة.. فأحرقت عُشبه وأشجاره وقتلت أطفاله، وانطفأت في مجرى يسدر في العدم! |
- ألم يكن لكل ما مضى مصير؟! |
- فماذا نقول لأبنائنا؟! |
- وأين وقف الإنسان.. وما تكلم وفعل على امتداد هذا التاريخ الذي نتغنّى به، ونعلّمه لأطفالنا، ليتمجّدوا به؟! |
- وما الذي نصنعه اليوم بخلافاتنا، وبحروبنا الأهلية، وبآلامنا، وبعجزنا.. لنتطاول، أو نشمخ، ثم.. تخرم هذا الصنيع كله: نظرة إلى الظل المفقود؟! |
كلّ هذه الحضارة التي تتشدّق وتختال بها الدول المتقدمة، والمتفوقة، والمستقوية علينا.. |
وكلّ هذه الابتكارات، والانتصارات العلمية التي سبقنا إليها عالم كان في السابق يعاني مثل ما يعاني منه العرب اليوم من استعمار، وحروب، واضطهاد: |
- ترى كيف ننظر إليها؟! |
- وماذا نتعلّم منها، ونستفيد، ونعتبر، ونقاوم، ونتقدّم إلى المستقبل الذي سيكون واقعنا اليوم، ماضٍ له؟! |
- ترى.. هل سيأتي المستقبل الذي لا ماضي له، وهو يفتقر إلى قاعدة؟! |
- هل يأتي مطلاً على عصر.. يتوقّف عند الانخذال أو عليه، ومحرّضاته المعاشية ضائعة في فَنَائها اليومي؟! |
ذلك يعني أنّ الإنسان، يضخّم لحظته في هذا الفرح الكاسر إلى درجة الحزن والآلام.. سواء كانت لحظة ((حياة)) بواسطة مقاومته، وكفاحه، وشرف حريته.. أو كانت لحظة ((قتل))، بواسطة إسرائيل، والقوى العظمى! |
* * * |
يا أيها الفرح الكاسر: |
إنّ الإنسان يضخِّم لحظته.. كما بالونة، يمتدّ إليها فجأة رأس دبّوس.. وتمتد منها نظرة إلى الظلّ المفقود، وإلى هذا الفرح الكاسر.. فتتمزّق البالونة على شفة الإنسان، ويواصل ذهوله، وتصلّبه.. وتربكه الانفجارات المتوالية من صنع الأقوياء المدمّرين، وينشغل عن مناخه، وعن التفكير في المستقبل! |
وإذن.. لم يبق له سواك أنت: الفرح الكاسر.. في لحظاته المؤقتة!! |
|