شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
التيارات الأدبية في الحجاز
حين كنت أتأمل أبعاد (فكرة) العزلة عن المجتمع الثقافي بالذات، وعن المجتمع عامة، لدى العالِم المصري الراحل الدكتور ((جمال حمدان))، ولدى الدكتور الذي كان يواصل عزلته وصمته في مصر ((ثروت عكاشه))، تذكرت أن أديباً كبيراً، وناقداً مميزاً، ومفكراً شهيراً من أبناء هذا الكيان الكبير، المملكة العربية السعودية، قد نهج ما فعله الراحل ((جمال حمدان)) -رحمه الله-، والصامت ((ثروت عكاشه))، وآثر العزلة في بيته من قبلهما؛ لا يرتاد المجتمعات إلاّ المُلحَّ عليه، ولا يشارك في المنتديات والمهرجانات، وما يسمى: فعاليات.. كأنه قد اتخذ موقفاً ضد العصر كله!!
إنه الناقد: (عبد الله عبد الجبار)، صاحب الكتاب الأشهر: التيارات الأدبية في قلب جزيرة العرب!!. إنه الأديب الذي يستحق من هذا الجيل دراسة تغوص في فكره، وتمتح من رؤيته النقدية. إنه المفكر الصامت اليوم، الذي سُحق ما بين الحلم بعودة اليقظة إلى أمته العربية، وما بين كلمة -مما يقال اليوم- قد يُبهر قليلها، ولا بد أن يجلدنا كثيرها!.
كأني به اليوم -في صمته وتأمله- يراوح في هذا المنتصف الذي يولد أسئلة ضرورية عن: شيء يتهتك وينشرخ، مما يلامس الفكر الإنساني، وإبداعات الإنسان.. فلا يقاوم، ولا ينطلق!!
نعم عبد الله عبد الجبار: تاريخ لمدرسة التنوير في وطننا، لافت في حقبة من هذا التاريخ.
كنا وما زلنا نستفزه ليشارك في رقصة اللهب، مع كلمات تُولِّد كل يوم معاناة الإنسان المعاصر والمعصور، وهو الذي يتعمق جذور الأرض، وينتمي إلى أصالتها وتراثها.
إنه هذا الذي شجب من وقت بعيد من سمَّاهم: ((مثقفو الجهلاء))، الذين يمثل أدبهم ما وصفه صديقه الشاعر الكبير الراحل ((إبراهيم هاشم فلالي)) بأنه: عودة لأسلوب الكهّان في زمن الجاهلية!!
شارك في عام 1965م، عضواً في الوفد السعودي في مؤتمر الأدباء ببغداد، وذلك من خلال بحثه عن ((الغزو الفكري))، الذي وصفته الشاعرة المبدعة ((نازك الملائكة)) بقولها له:
((إن بحوث المؤتمر متكاملة.. وبحثك يعتبر مقدمة لها، وخلفية لا بد منها)) (1) .
وفي بحثه ذاك.. طالب بكتابة التاريخ العربي من جديد على منهج علمي صحيح، ((بحيث يكون تاريخ الشعب في حركاته وانتفاضاته منذ أقدم العصور وحتى الآن في مختلف المجالات: السياسية، والأدبية، والثقافية، والاجتماعية.. ونفي للعناصر الدخيلة على كيانه))!!
ومن هذا ((الانتماء))، نستخلص التصاق ((عبد الله عبد الجبار)) بالأرض، وبقضية أهله من المحيط إلى الخليج، وبكبرياء الجرح!!
كأنه اليوم في عزلته، وفي صمته وتأمله، يجفو كل شيء ما عدا القراءة.. ونخاف عليه أن تقسو جوارحه بالظمأ، وهو الذي سكب الرواء لنا من خلال فكره، ونقده، وعلمه، وثقافته، وإشاراته التي دلت على منهجية فكره، وأستاذيته في مجال النقد!!
نعم عبد الله عبد الجبار مثقف لافت، أهمله الإعلام الأدبي والثقافي، ونسيته النوادي الأدبية، ودور النشر، فكأنه يرفض أضواء هذا العصر، بعد أن أودعناه داخل ذاكرة يغلب عليها النسيان أو التناسي، وبعد أن أودع هو صوته في خزانة عزلته وصمته!
نعم.. عبد الله عبد الجبار من أعلام المثقفين في الجزيرة العربية.. وقد انطوى على نفسه، فلم يكلف نفسه من خلال غوغائية الملاحق والصفحات الأدبية وارتمائها في أحضان الكتاب من خارج الوطن، أن نسأله -بحرص شديد- لماذا صمتك؟!
وأن نلحَّ بالسؤال الرديف: وماذا تفعل الآن.. تكتب، أم تقرأ.. أم ترى أنه لا جدوى من الكتابة أو الإجابة؟!
طيور الأبابيل:
وأثناء قراءة متأنية لديوان ((طيور الأبابيل)) للشاعر السعودي الراحل ((إبراهيم هاشم فلالي)).. كان لا بد لي أن أتوقف طويلاً عند الدراسة الشاملة: نقداً وطرحاً وتشخيصاً لمضمون هذا الشاعر، ولشعره، وللمناهل التي متح هو وجيله منها، فغذتهم بالمعرفة وبالرؤية!
وهذه الدراسة.. كتبها هذا الناقد الكبير ((عبد الله عبد الجبار)) الذي تجاوز الحدود الإقليمية في فكره، وانطلق إلى العالم العربي.. فعُرف في مصر ولبنان عبر الإسهامات الأدبية التي شارك فيها بعلمه وبفكره.. وعبر اللقاءات العربية.. وعبر الدراسات التي كتبها ونشرها.
وفي هذه الدراسة التي كتبها مقدمة لديوان ((طيور الأبابيل))، أوقفني الأستاذ الناقد عبد الله عبد الجبار معه عند بعض العبارات التي كتبها وطرح من خلالها رأيه في مسيرة الشعر الحديث، وفلسفة الكتابة المعاصرة!.
رأيته يتعتَّق في محارة تكاد الرمال أن تسدَّ فتحتها، ولكنه في داخلها يومض ويضيء، وينمُّ عن أصالة فكرية لا أبالغ لو قلت إننا بتنا نفتقدها في كثير من هذا الصخب المتعالي في شكل نقد ودراسات أدبية!
وكان لي حديث طويل مع هذا الأديب الزاهد في اللمعان والضوء، الذي يتحاشى أن تستكتبه أي صحيفة اليوم، ولكنه يعكف على قراءاته الجادة بلا كلل!!
ويجد في الكتاب صديقه، الذي يأخذ منه ويعطيه البوح والصدق!
وينظر إلى هذا الزحام المتلاطم في عصر ((تفشي القلم!))، وكأنه يرى زحاماً على جثة دهستها سيارة مسرعة!
وقلت له ذات يوم: ((ولكنك بهذا الصمت، تمنع عنك واجب المُعلِّم الذي يفيد طلائع قادمة من جيل يتعطش للمعرفة؟!)).
قال: ((لقد سلمنا الراية لكم، ونحن نواكبكم، وندعو لكم!)).
قلت: ((دعني أتجرأ عليك، فأقول: إن مسؤولية المُوجِّه تستمر معه فلا تشيخ ولا تضعف، حتى لو وهَن العمر!)).
قال: ((عند قول الحق، وإبداء الرأي الصريح.. تجدني لا أتوانى، ويرتفع صوتي!)).
حوار.. معه!:
وكنت أرغب -يومها- في مواصلة الحوار معه.. حتى يبلغ بي إلى حدود المعنى الذي طرحه في مقدمته لديوان ((الفلالي)) عن القضية التي تشغل النقاد من ((التبعية)) للمدارس النقدية الغربية.. كقضية تعاني من الترغيب حيناً، ومن البُكم حيناً آخر!
لقد كتب الناقد الكبير ((عبد الله عبد الجبار)) في مقدمته:
((حتى المجدِّدون.. بل الموغلون في التجديد، لا بد أن تكون لهم جذور ما في تربيتهم الأدبية والفنية الأصيلة.. ولذا فإن عبارة ((جذوره في خطوه)) التي أطلقها أدونيس، تعبيراً عن انطلاق الفنان في الحداثة.. ليس لها أساس من الواقع!!)).
وأحسب أننا بلغنا المرتكز الحقيقي في هذا الحوار.. فنحن نتغرّب عن الجذور، ونركض وراء الصورة والعبارة المعرَّبة.. دون انتماء!
ونحن نبيع هذا الكم الهائل من التراث، وهذا الانتماء المطلوب للجذور -كتربية ونواميس، وقضية- لنطفو بعد ذلك فوق القشور التي تراكمت حتى حسبناها من اللباب.. وننخدع في تلاعب الألفاظ، وفي حرارة الانفعال!
إن سؤالي ((المُلحّ)) والموجَّه إلى أستاذنا الكبير عبد الله عبد الجبار:
ألست ديكتاتوراً على رؤيتك، ورؤاك وآرائك.. حتى تحبسهم وراء صمتك الذي طال؟!
وأعلم أن الكتابة عن مفكر وناقد -في قامة عبد الله عبد الجبار وهو يسترخي الآن في خريف العمر- تتطلب الدراسة المتعمقة، والرجوع إلى مؤلفاته.. لكن ((كتيباً)) محدود الصفحات لن يكون قادراً على استيعابها، غير أن فائدة هذا ((الكتيب))، باعتباره مطبوعة رديفة لمجلة شهرية يغطي توزيعها أنحاء الوطن العربي، ويباع من هذا الكتيب ما يتجاوز الـ 40 ألف نسخة.. لا بد أن تبلغ الإضاءة عن هذا المفكر والناقد المميَّز عقول نسبة أكبر من القرّاء العرب.
وقد بدأت -في سرحة- أستعيد بعض ما كتبه ((الأستاذ)).. أسترجع وأتوقف.
إننا نجافي هذا المفكر الناقد كثيراً، فلا نسأل عنه حتى بالهاتف.. وبرغم أنه يعيش بيننا في مدينة ((جدة))، واكتفينا ((لتكريمه)) أن صرنا نناديه بالصفة التي يستحقها وهي: ((الأستاذ!!)).
ولعلّ ((الأستاذ)) عبد الله عبد الجبار قد حرص أن يزرع في عقولنا معنى تلك العبارة التي قالها أرسطو:
((ليست الشجاعة أن تقول كل ما تعتقد. بل الشجاعة أن تعتقد كل ما تقول))!!.
شيخ النقاد!
لقب.. أطلقته مجلة ((اقرأ)) في رئاسة د. عبد الله مناع لتحريرها، على شيخ الأدب والأدباء في الحجاز، المعروف لدى جيلنا من تلامذته الذين نهلوا من علومه، وتزوَّدوا من ثقافته فاختاروا أن ينادونه بلقب الأستاذ.
إنه ((الأستاذ)) عبد الله عبد الجبار، الكبير بثقافته، والكبير بتواضعه، والغني بمخزونه الأدبي، إنه رمز الكلمة في حفنة متبقية من جيل التنوير الذين حملوا مشاعل العلم، والأدب، والإبداع في مرحلة كانت متواضعة بإمكانات المدنية والحضارة!!
إنه من جيل الروّاد الذين نحتوا الصخر، وأسرجوا خيول الوعي.. ليلاقي اليوم -من تبقَّى منهم، ومن لاقى وجه رب كريم- الإنكار والجحود لقيمتهم من جيل نبت في صميم الوفاء.. ليُقلل من شأنهم، وليحط من قدرهم بكل التنفُّج والاستعلاء على من شقوا لهم الدرب، وأشعلوا لهم الشموع!!
فإذا كان هذا الرعيل التنويري، النهضوي، ((الأستاذ))، قد ارتقى القمم، وتآخى مع ((الكتاب)) حتى أشاعه مبدأ، ومشعلاً، وتأسيساً لقاعدة توعوية وإصلاحية بالعلم والثقافة.. فلا أقل على بعض هذا الجيل ((الأكاديمي)) المعتز بأطروحاته المسبوقة بحرف الدال: ألا يتنكر لجهد ذلك الرعيل، وألاّ يقلل من عطائهم الأدبي والفكري.. وقد فاض من بعض هؤلاء البارزين بكلامهم نضح من غرور بيّن، احتشدت به كلماتهم التي حاولت النيل من قيمة الرواد!!
ولعلّنا نتساءل عن ((العُرى)) التي ينبغي أن تواصل بين الأجيال.. لا أن تحدث الفجوات بينها، أو يُحدّثها الجيل الجديد بلغة متشققة حادة تفتقر إلى حميمية المعاني والتواصل.
وأمامنا أمثلة عظيمة على الوفاء، وعلى تقريب الفجوات، وهي واردة بين جيل وآخر، وعلى ((الاعتزاز)) بالأوائل، أو الروّاد، أو الجذور:
ففي مصر: ((يُعظمون)) محمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، والمازني، وشوقي، وحافظ.
وفي لبنان: ميخائيل نعيمه، والأخطل الصغير، وإبراهيم اليازجي، والبستانيون، ومارون عبّود، وشكيب أرسلان -كمثال- وغيرهم كثيرون.
وفي العراق: الرصافي، والجواهري، والزهاوي، والسياب، ونازك، والبياتي.
فلماذا نعمد -بحرَدِ ذاتي- إلى تهديم رموزنا، والتقليل من قيمتهم الثقافية، والإبداعية.. وفيهم مَنْ لا يقل عن أولئك الذين يُعظّمونهم في مصر، ولبنان، والعراق؟!
ومن أجل الإنصاف، ومبدأ الحياد.. أجد عبارة يمكننا تطبيق الدعوة التي حملتها بقلم اللبناني المبدع أنسي الحاج الذي كتب يقول:
((إن الأدب العربي، سار منذ الأربعينيات والخمسينيات على خط أكثر إيغالاً وجدية في مفهوم التأليف.. وما تحقق في العقود الأخيرة من قصائد وقصص ومقالات ودراسات، يستوجب -لاختلافه عن السابق، ولأهميته الذاتية معاً- أن يتوقف عنده نقد ما، توقفاً هادئاً مسؤولاً، باحثاً مكتشفاً، مقوّماً وجالياً الحقائق)).
أما إطلاق الكلام، بالونات تجريح ولمز لرموزنا، ولأسماء حفرت الصخر من جيل الروّاد.. فهذا ((سلوك)) غير سويّ يبعد كثيراً عن البحث، والدراسة، وحتى عن التنظير!
عبد الله عبد الجبار.. الأستاذ:
ونعود إلى ((شيخ النقاد)) -كما وسمته اقرأ- وهو ((الأستاذ)) كما عرفه جيلنا، واغترف من معين ثقافته. عبد الله عبد الجبار، الذي يؤكد كبرياء كرامته بمزيد من تواضعه.. فها هو يلوّح لنا مثل ((ناسك))، في محراب الكلمة: يقرؤها، يستمزجها، يستكنهها، يتلذذ بإشراقة المعنى، ((يحسها)) كالميلوديا في الموسيقى.. فلا بد أن تصدح روحه في صمته هذا عشقاً وارتقاء لـ ((وُسْع)) الكلمة الجميلة، الصادقة، المنزَّهة.. الغادية إلى شرنقة الحلم، وتطهير الروح، وحرية العقل!
نعم.. عبد الله عبد الجبار، وهذا السؤال الذي يراودني عنه منذ زمن طويل:
هل هو يتأهب دائماً.. ليردَّ على نداءاتنا صوبه في صمته وعزلته هذه.. فيقول لنا:
كفُّوا عني.. لم يبق لديَّ شيء من حاسة النقد التي يستحقها ((لغطكم))؟!
ومن وقت بعيد أعتزم القيام بزيارة هذا الأستاذ، ولكن.. حتى أعثر -في البدء- على الشخص الذي سيأخذني إليه، يعرف بيته، ويعرف التوقيت الذي يمكن أن يفتح فيه ((الأستاذ)) باب بيته ليستقبل من يقصده بالشوق، وبالتقدير، وبالحب.
وهناك من وعدني باصطحابي معه لزيارة ((الأستاذ))، ولكنه نكص ونكث الوعد ولا تثريب عليهم في ((الاستئثار)) بمتعة الإصغاء إلى أحاديث الأستاذ.. فأحسبها أنانية محببة، فيها الكثير مما يعتقده الإخوان، وتُسمى ((طوباوية)).. لو هم ذهبوا إلى الأستاذ بأرواحهم لينهلوا من وشائج فكره!
وحتى الآن.. لا أدري: هل نجحوا في زياراتهم لشيخ النقاد -كما وصفوه- في أن يظفروا بحوار موسَّع يأتينا كالحوليات.. بل أكثر من ذلك، لأن الأستاذ عبد الله عبد الجبار آثر من وقت طويل مصاحبة الوحدة، والصمت، والتأمل!!
أثافي ثلاث أقام عليها مقامه الآن في هذه الدنيا، وكأنه السعيد بمحاورة النفس وهو يسرُ إليها بوحه، ويودع فيها أفكاره وخلاصة تأملاته!
مشوار طويل، لم يؤجل منه ((الأستاذ)) دقيقة واحدة، لأنه كان المبدع للوعي من شرايين الحق والحقيقة، ولذلك قامت أفكاره على منطقية المعرفة التي لا تضطره إلى قماشة عريضة من الشرح، فأبقى على روحه بعيداً عن النزوح إلى اللاوعي، أو اللاعقلانية، أو.. اللاتقدمية!
ولذلك -أيضاً- خُيِّل إلينا نحن تلامذته، أنه قد يكون في بعض أوقاته يعيش في ((يقظة فجائية)) ما تلبث أن تصطدم بالواقع!
ولا أدري.. لمَ تخيلته -في بعض وقته- شبيهاً بـ أديسون الذي لم يكن يكفُّ عن التفكير، و ((الأستاذ)) لم يكن مخترعاً ولن يكون، ولكنه مبدع خلاَّق للكلمة وأبعادها وموانئها!!
إنني أراه يصطرع وهو يغالب فجيعة الحلم أو الأمنية، وارتطام الحقيقة ذات الدوار!
وتذكرت ((الأستاذ)) في واقع المجتمعات التي تعدو لتنال أكبر حظ ونصيب من وجه الحضارة (كانت هذه دعوته دائماً)، وما زالت المجتمعات هذه تسحب معها بقايا تخلُّفها، هي التي تعيش الاصطراع، وقد لا يكون هذا الواقع هو صميم قضية العصر، بل قد يكون هو ((القاضي)) المتوَّج الذي يصدر أحكامه وحده على العصر، وأيضاً على الإنسان!!.
إن المجتمعات التي استطردت مع ما حولها من حضارة وتقدم، قد أثقلها هذا الكثير من سوء التطبيق لما لدى الآخرين، وأثقلها الكثير من الحقائق، فصار بحثها الآن يتركز في عودة خلفية لالتقاط ذوائب أحلام وخيالات.. وبذلك، فإن الإنسان -كما قال كولن ويلسون- يتحول إلى إنسان بلا ظل!!
أشياء العقل:
أستاذنا -شيخ النقاد- عُرف بازدرائه الشديد للأفكار السطحية الزائفة عن الحياة العصرية، وكانت لديه تلك القدرة اللافتة التي صفع بها مناوئيه وحتى ((خاذليه)).
إنه يتطلع -الآن- إلى أيامه التي يعيشها في صمته، وتأملاته، وعزلته.. فيخيل إليَّ -كتلميذ له- أنه يرى فيها أبعاداً من فلسفة صبَّها الفنان الفرنسي بول جوجان في لوحته الشهيرة التي رسمها لفتاة من جزيرة السحر تاهيتي!
والحكاية أن جوجان سكب عصارة إحساسه في تلك اللوحة مع موهبته وإبداعه.. لكن دائنيه استطاعوا أن يقهروا كل الفيض من نفسه، فباعوا اللوحة في مزاد علني بمبلغ سبع شلنات!
في ذلك المساء المترمّد المتوقف، بعد ضياع لوحته منه، سهر جوجان حتى الصباح يرسم.. فإذا أمامه لوحة أخرى لوجه فتاته ذاتها، حشد فيها ألمه، وقهره، وفقده، وأنطق أبعادها وألوانها، وجسَّد من خلال خطوطها وزواياها تعبيراً جديداً.. لقد رسم وجه الفتاة، وترك الوجه بلا عينين!
وقبل أن أشرع في الكتابة عن شيخ النقاد عبد الله عبد الجبار، شردَتْ خواطري، وشرد معها قلمي على صفحة الورقة، فكأنني بيكاسو الذي رسم العين في منتصف إحدى لوحاته بفنه السيريالي، فرسم دائرة، وضع داخلها نقطتين.. فوجدتْ عينان، وأصبحت الدائرة شكلاً.. لكني كنت مرهقاً، وتصورت الكثير بهذه الدائرة، وبقيت صورة ((الأستاذ)) خارج الدائرة!
ربما صرنا نعيش الآن هكذا: نتخيل.. ويزداد عذابنا أكثر!!
إنني تهيأت بعد ذلك لأكتب عن هذا ((الأستاذ))، في زحام هذا اللغط العجيب -ليس من الأصوات، ولا من الآراء، ولا من الأفكار- بل من نعاس الصباح الدائم في كل ابتداء نُزمع الاستهلال به!
فأيّ ((حياد)) يطالبون به أمام الفكرة، والإبداع، والمناخ، والتلقّي، والانفجار؟!
إنها أشياء العقل، وليس فيها ذلك ((الموت المشترك)).. بل الحياة الإعيائية حتى الإعياء!!
التأمل.. جديدة:
في كل مرة نكتب عنه -هو بالذات- نكتشف أننا نقول كلمة جديدة تختلف عن ما كتبناه عنه.. كأن أدبه وفكره ومنهجه يتفتَّق في كل مرة بالجديد، وبالدلالات، وبالإبداع.
سألته في أيامه هذه التي يسترخي فيها: ((نريد أن نقرأ الجديد لك يا أستاذنا؟!)).
فأجابني بعد صمت: ((جديدي.. هو التأمل اليوم!)).
لم يكن الأستاذ عبد الله عبد الجبار يطيق أن يُجافي الكتاب، ولا أن يخاصم الكلمة.. وهو في تأملاته اليوم لم يفعل ذلك، ولكنه كما يقول لي:
((صار هذا الكتاب المفيد والثري عزيزاً جداً في عزلتي هذه.. لكنه يصلني، فإذا هو أثمن هدية، لكن ذلك الشغف القديم للقراءة والكتاب، أحنُّ إليه اليوم بحزن شديد!)).
فهل هو الحب للأستاذ عبد الله عبد الجبار؟!
فهل هو ((التشبُّع)) بأستاذيته لنا، وبأفكاره التي أضاء بها عقولنا، وأسرج رؤانا؟!
هذا هو ((بقية)) الناس.. أي: بقية هذا الجيل الدسم، المثقف، الموجِّه الذي ترسَّمنا خطاه، ومتحنا من معينه، وكأنه الجيل الأخير الذي لم يُنجب، وكأنه عمق البئر الذي عجزت دلاؤنا أن تهبط إليه لتستقي منه المعرفة، والأصالة في الفكر، والتجدد في الإبداع!!
وهذا ((الافتقاد))، أو هو الافتقار لأساتذة جيل وموجهين، لا نعاني منه هنا في الداخل فقط، بل هو الجفاف الذي شمل الأقطار العربية ومجتمعاتها الثقافية.. فلم ينبعث مبدعون ولا متميزون بعد الجيل الذي قضى ومضى، ليس في الأدب والثقافة فحسب، بل وحتى في الفنون والعلوم والموسيقى!
إذن.. لنبدأ هذا ((النقش/الموزايكو)) بالكلمة، فنبني رأياً، ونُعلن صوتاً آخر، ونطلق عيوناً للأبعد.
ونعرف أن الكثير من قرّاء الحاضر أو الحداثة، لم يقرأوا عبد الله عبد الجبار ولم يتعمقوه.. كأنهم يواصلون محاولات التهجِّي لكتبه النقدية ودراساته الأدبية المهمة.. وليست هذه هي مشكلة عبد الله عبد الجبار، بل هي مشكلة الجيل الجديد، ومشكلة وسائل إعلام هذا العصر التي احتفت بالأقدام أكثر من الرؤوس (ونقصد بها كرة القدم)، وزفت الفنانات والفنانين ((المغنين)) أكثر من الكُتَّاب المبدعين من شعراء، وروائيين، وقصاصين، ونقاد، ومفكرين.
وهي -أيضاً- مشكلة دور النشر الحاضرة الغائبة التي لم تفكر حتى الآن في إعادة طباعة كتب الرعيل الأول بإبداعاتهم وآدابهم، وإن كانت ((تهامة)) قد فعلت عبر سلسلتها ((الكتاب العربي السعودي)) حتى شكت من العجز المالي. وما تنشره الدوريات وإصدارات النوادي يحفل بالكثير من إنتاج وإبداع ((الخارج)).. أي خارج حدودنا من كُتَّاب، ونقاد وأدباء، ينشرون لهم، والكثير من الكُتَّاب يتكفف بحثاً عن دار نشر تطبع له ولا تقدم فيه شكوى بعد ذلك ((للحقوق)) بالشرطة!!
أمِّية الضمير.. الأخطر:
نعم.. أشياء العقل في بساط ممتد من ((الأمية الثقافية))!
يروي ((الأستاذ)) موقفاً مع سائل اقتحمه بهذا الاستفهام المحترق من أطرافه، فقال له:
- ((أي الأميتين أخطر: الأمية الهجائية، أم الأمية الثقافية؟!)).
فأجابه الأستاذ: ((لا داعي لهذا السؤال والمقارنة بينهما في الخطورة.. فكلتاهما يجب القضاء عليهما!)).
أما أخطر الأميّات جميعاً، فهي الأمية التي لا تعرقل القضاء على هاتين الأميتين فحسب، بل تهوي كذلك بالمجتمع بأسره إلى الحضيض.. وهي التي يجب أن نحاربها دون هوادة حتى نقضي عليها!!
تلك هي.. أميَّة الضمير!!
أوه يا سيدي.. هل أذكَّرك بالمفقود ((جودو)) الذي يأتي ولا يأتي؟!
لقد صار ((جودو)) في أيامنا هذه.. هو الضمير!!
هل أذكِّرك بمصباح ((ديوجين)) الذي حمله في النهار بحثاً عن الحقيقة؟!
لقد صار ديوجين ومصباحه.. هما الضمير اليوم!!
فيا أيها ((الأستاذ)).. يا مُلَمِّعنا الأنقى، والمتبقي:
رغبتُ أن أزورك.. أن آتي إليك لتأتي إلى كل ما هو قريب مني!!
رغبت أن أكتب لك.. أن أعانق كلماتي إليك لأنها ستبلغك وتضاف إلى أملاكك المحبوسة في صندوقك المقفل!
إنني أذرع العالم طولاً وعرضاً، وأعود بانطباع عن جنون هذا العالم!!
فكيف لا يجن الناس؟!
الكثير فقد عينيه مثل لوحة ((جوجان)).
والبعض لم يعد يشعر بعينيه وهما ما زالتا على وجهه يُحدِّق بهما ولا يرى!
فيا أيها ((العريق)) في كلمة الجزيرة العربية:
تبقى أنت منارة مضيئة وشامخة في التيارات الأدبية الحديثة.. فارفع من جنباتها: أذانك، ودعوتك إلى مزيد من المعرفة، والحق، والرؤية!!
الأستاذ.. المعلم!!:
عبد الله عبد الجبار، أديب عريق في تربة الجزيرة العربية.. عميق في الزمن المولّي، وفي هذا الزمن المدلَّى.
كان يسترق السمع لحبنا له وهو في غربته بعيداً عن أرضه.. وكنا نتوحَّى صوت وجدانه وفكره القادم إلينا دوماً، يصارع ((بالتيارات الحديثة)) وينجو فوق أمواجها!
كان في غيابه الطويل عن أهله وأرضه وشمسه، يحضر بحزنه الجغرافي.. بشجنه المتعايش دوماً خلف معارك الأيام والإنسان، وكان يحضر بحميميته في الأشياء، وبجنون الأشياء التي زاد حماس الزمن لها!
إنه يمثل الومضة من خصوبة الزمن، هو هذا السطر القديم اللامع في رسالة الهجر والضنى، وفي عبارة الحنين والانتماء، وفي حرف الإصرار والعشق للأرض!
إنه هذا ((السيد)) القادم: قديماً يتجدد، قادم من بحار التوقف، والهدوء، والتأمل، والمجد الذي نعس، لعلّه يصحو!!
والأستاذ عبد الله عبد الجبار في بلادنا، رائد ببزوغه وبتخصصه في النقد، وبكتابه النقدي عن ((التيارات الأدبية الحديثة في قلب جزيرة العرب))، الصادر منذ سنوات طويلة، وهو كتاب طبَّقت شهرته آفاقنا، رغم ما اكتنفه، ومعروف لدى النقاد العرب في كل مكان!
كنا بحضوره -ذات مساء- نستدرج تأمله وإصغاءه لنا، ونتحلق حول صمته الذي يواجه به ثرثرتنا، فسأله أحدنا بذلك الغرض إلى الاستدراج:
- ((لديك المحفوظ من كتب جاهزة للطبع، فلماذا لا تنظر إليها وتطبعها؟!)).
فقال مبتسماً: ((هذا الموضوع ((كله)).. غير جدير بالبحث أصلاً!!)).
ولكن، دعونا نرسم فاصلة هنا، فنسمع ما يرنُ خلف هذه العبارة التي أطلقها الأستاذ.. فكأنه أوقد حماسنا له أكثر:
أن تشعر بأنك تفعل شيئاً ضرورياً، فذلك شيء مسموع.
أن تشعر بأنك تمارس فعلاً من الصعب إسقاطه، فذلك شيء مسموع.
أن تستطيع التحرك صباحاً، والتناقض، والوقوع، والتهجُّم، والتعاطف، و ((التعاشق))، فذلك شيء مسموع.
أن تفعل ما تريد، وأن تُعطي ما يحتاجه الآخرون منك، فذلك شيء مسموع.
أن تصمت لتتأمل، وتحزن، وتفرح، وتعشق، وتتخلّى، وتلتصق، وتنتمي، فذلك شيء مسموع: يسمعه غيرك، وتسمعه وحدك في الناس.
أن تسمع وحدك تلك ذروة الحس والحياة، وأن تسمع بالناس ومعهم: فذلك هو الحضور الذي يؤطّر فكرك وهدفك!
إن القضية الإنسانية الشاملة تجمع انفعالات الفنان وتصهرها في حسِّه، ويسكبها حرفاً، وعبارة، ورسماً، ونغماً.. لكن القضايا الذاتية التي تنغل في جوانح الفنان هي التي تُحدث المعاناة والتصبُّب من داخله، وهي التي تكبح الخيول الراكضة والصاهلة في صدره!
والفنان مشكلة ذاتية.. حيث تكبر الأحزان أو تذوب، حيث تتفسَّخ الأماني أو تتجسد، وحيث الشعور حياة، أو لا يكون هناك شعور!
إن الأستاذ عبد الله عبد الجبار، يُمثّل منارة مضيئة وشامخة في التيارات الأدبية الحديثة.. فلا بد أن ينتشر من جنباتها، أذانه ودعوته إلى مزيد من المعرفة والحق، والرؤية!!
طباعة

تعليق

 القراءات :626  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 100 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.