شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-23-
المكان: جاذبية.
الزمان: عمر.
الصوت: عهد.
الرؤية: ارتواء.
* * *
- قالت له: ما بالك تخلد إلى الصمت.. هل فرغت من الحوار نهائياً؟!
- قال: الحوار لا ينتهي.. فلا بد أن نبتكر كلاماً، ولا بد أن تقتحمنا هموم، أو تجذبنا إليها لحظات من السعادة.. ولكنني أشعر -بعد كل ما قلناه- أننا سنعود إلى تكرار ما سبق بنفس الرؤية، وبحكايا أو مواقف مختلفة!
- قالت: فلم أنت حزين إذن.. كأننا لن نتلكم بعد الآن؟
- قال: ليس هو الحزن يا حبيبتي.. بقدر ما تفيض الشجون في لحظة كهذه.. يعتقد فيها ((اثنان)) متمازجان أن التواصل يكاد ينقطع بينهما.. أو كأن هذا الحوار بيننا، يمثل أنفاس عمرنا وحبنا التي تطوف على جدار القلب كلما ابتدأ حوار جديد!
- قالت: ولكننا لن نتوقف عن هذا الحوار، بل لعلّه سيصبح أكثر عمقاً في توحدنا وتكاملنا معاً، وسيكون في حشاشة القلب وليس على جداره فقط!
- قال: تعتقدين ذلك بثقة؟!
- قالت: ولم تشك أو تنفي الاستمرارية، ونحن سنكون معاً؟
- قال: لأننا حينذاك سنتحاور في أمور صغيرة ومادية وطارئة.. تخص إدارة البيت، وبناء الأسرة، وتربية الأطفال!
- قالت: حينذاك يكون الحوار بالفعل هو الأنفاس.. أي أكبر من الكلام!
- قال: في الشهر الأول فقط!.. ثم تعصف بالذكريات الجميلة تلك التوترات التي لا تنتهي!
- قالت: ولماذا تفترض التوتر.. وأين يذهب الحب؟!
- قال: لا أدري.. ولكن من سبق يدلل على ما افترض!
- قالت: أنت متخوف من نفسك، أما أنا فسأعرف كيف أحافظ على الحب!
- قال: ولكن الشجن ينتابني.. كأنه أصبح هو عقلي، لقد حاولت ذلك المساء أن أمسك بالشجن، وأن أجعله في مواجهة حبي لك، وأن أتخيل هذا الحب محيطاً هادراً ألقي في دوامته أشجاني وأغرقها وأرتاح.
- قالت: ولكني لست معك.. فالشجن هو حاجة للنفس.. ينتقيها أحياناً!
- قال: إنني الآن، كنتيجة، أفتش عن شجن جديد أضعه مكان الغريق، أو الذي أريد إغراقه.. فالطب نجح في استبدال القلوب، وربما ((الكلاوي!)) أيضاً.. بينما الإنسان الجديد نجح -بالمقابل- في استبدال العواطف.. وتولى قتل ذلك أو إغراقه إما بأسئلته التي لا يجد لها أجوبة، وإما بتقبله لأجوبة لم يطرح من أجلها أي سؤال!
- قالت: فهل يمكن أن يأتي شجن بديلاً عن شجن، أو في مكانه؟
- قال: لعلّه يمكن، فما دام الناس يضعون عاطفة مكان عاطفة، أو يستبدلونها، فلماذا الشجن؟!
- قالت: وماذا يعني هذا؟
- قال: يعني اضطراب الصور الجميلة في عيوننا، وتموجها في حواسنا.
- قالت: ولماذا تضطرب الصور الجميلة، أو التي كنا نحسبها لا أجمل منها ولا أنضر؟!
- قال: المشكلة لا تكمن في رؤيتنا للملموس عندما نحدده بالرؤية، أو عندما نشيح عنه بعد اكتشافه.. لكن المشكلة: أن الصور الجميلة تضطرب في حواسنا ونفوسنا وفي انطباعاتنا التي نكتسبها من الاكتشاف.. لحظتها ينهشنا التشاؤم عندما نرى الملامح التي كانت خيالاً وهي قريبة ودقيقة.. ملامح النفس وما تحمل، وملامح العاطفة وما يثقلها، وملامح الآخرين الذين نتعامل معهم ويحاربوننا باسم الأخلاق والحب وهم يفتقدون الأخلاق والحب، وملامح الفكرة عن الحياة كشمول وما يطغى على الفكرة من نوازع ومن غرور.. من حدة وقسوة أحياناً، لحظتها يسود القبح فيطغى على كل الصور أو الملامح الجميلة التي كانت تحيا في حواسنا خيالاً وحلماً وبعداً!
- قالت: ولكن.. إن الإنسان في هذا الاكتشاف الفاجع له، خاصة في اكتشاف من أحب، قد يبدو سجيناً للحيرة وللحزن، أمام تعديات العقاب الذي سيفرضه على نفسه قبل مواجهة من أحب، أو قبل إسقاطه للأبد؟!
- قال: لا أحسب أن هناك عقاباً يقدر المحب أن يفرضه على من أحبه.. إلاّ أن تغرق النفس في الحيرة، وربما في الألم والحزن الصامت كالقهر!
- قالت: حتى هذا الإسقاط، أو هذه المواجهة بالفاجعة، ثم محاولة تناسيها والإشاحة عنها.. يكون من الصعب فيهما أن نستبدل شجناً مكان شجن، أو عاطفة بدلاً عن عاطفة، أو أن نطلق الرصاص على إحساس عميق ونضع مكانه إحساساً آخر.. فلا بد أن تبقى في الصدر آثار دماء نزفت، وآثار جراح.. ولكن العذاب هو أن تضطرب الصور الجميلة في الحس.. فكيف -إذن- يحيا حس أي إنسان بصور مضطربة أو غير ثابتة؟!
- قال: إن هذا هو ما نسميه رفض التخيل؛ أو تعتيم الرؤى، أو هو صعوبة تجسيد الاعتياد!
- قالت: أعترف لك في توغل الشجن.. أن الأمسيات تدخل قلبي كغيمة ولا تخرج منه.. وهذا هو عذاب الصدى!
- قال: كنا نتحاور، ويصبح حوارنا كأنفاس على جدار القلب.. لأن كل واحد منا يريد أن يكتشف الآخر، وأن يفهمه، وأن يراه في أعماقه!
- قالت: وكنا نتحاور.. ليتأمل كل واحد منا الآخر بالتخيل، ويسبر الأعماق.. فتكون معرفته لوجه الآخر ولشخصيته من خلال رؤية أفكار الطرف الآخر وعبر ثواني صمته وتلفته!
- قال مبتسماً: تنجحين لو عملت طبيبة نفسانية، أو عالمة اجتماع ونفس!
- قالت: ليس شرطاً ما تقترحه، ولكني أحبذ لو كنت جراحة!
- قال: أنت جراحة؟.. أنت أيتها الزهرة البرية؟!
- قالت: ولم لا؟.. الطبيب الجراح حاسم دائماً!
- قال: فكيف تقدرين أن تحسمي موسم الثلج في صدري إذا حان؟
- قالت: أشق صدرك.. أدميه، فأذيب عنه تراكم الثلج، فيسري الدفء فيه!
- قال: ثم بعد ذلك؟!
- قالت: سأشتاق إليك، وأضمدك، وأحنو عليك!
- قال: ستكونين حينذاك لا أكثر من طبيبة، وممرضة؟!
- قالت: أعالج إنساناً واحداً هو كل عمري!
- قال: وما الذي ستفعلينه كلما تضاعف اشتياقك؟!
- قالت: لا بد أن أطمئن على صدرك وأرعاه.. خوفاً من عودة الجليد إليه!
- قال: والأنثى لا تقتنع لمرة واحدة.. فلا بد لك أن تشقي صدري كلما عاودك الاشتياق إلي، وكلما خامرك ظن أو شك وفي حبي لك؟!
- قالت: لا بد.. فالجراح كما قلت لك حاسم!
- قال: ولكني لا أحتاج إلى جراح.. بقدر ما أحتاج إلى زهرة تعطر صباحي دوماً!
- قالت: إنني بهذا الدور لا أفتح لك جراحات جديدة، ولكني أضمد جراحات الحياة فيك وأنظفها!
- قال: وما الذي يكمن في صدرك أنت؟
- قالت: قلب لم يقدر عليه أحد غيرك!
- قال: ولكنه الطب.. ابتكروا القلوب الصناعية؟!
- قالت: لمن عطبت قلوبهم.. لكن قلبي سليم، ويزداد حيوية وعافية بحبك.. ثم إن القلوب الصناعية تعطى لمن تليفت قلوبهم، ولمن تراكم فيها الجليد!
- قال: ليس شرطاً.. فبعض القلوب أصابه التلف من شدة الحرارة والدفء!
- قالت: فاعلم، إذن، أن حبي لك ليس من الشمع أو البلاستيك.. إنه حب يستاف رحيق الزهور، ويتفتح تحت الشمس، ويتمايل مع النسمة، ويعبق تحت ضوء القمر!
- قال: ولكن ينشده المشتاقون والعشاق!
- قال: ولكنه خيال يا حبيبتي.. حتى إذا نزلنا فوق أرض الواقع، اكتشفنا أن الحب يصطدم بالماديات، وبالتعامل اليومي، وبتلك الخلافات الصغيرة التي تعكر صفو الحب وهناءه؟!
- قالت: ذلك صحيح.. ولكن الحب إذا كان صادقاً يدافع عن نفسه، ويذيب كل الخلافات، ويجتاز الاصطدام بالماديات.. وأنت تعلم أنني أرفض بشدة أن أحول المعاني إلى ماديات، وأن ألوث جوهر النفس بالطحالب والقشور التي تزول!
- قال: الإنسان الذي تحبينه.. ما الذي تطلبين منه؟!
- قالت: عندما أتأكد من حبه لي، فلن أطلب منه شيئاً، فحبه سيعطيني أكثر مما أريد، وعندما أحس بحبي له بكل دفقي.. فليس شرطاً أن أطلب منه المقابل!
- قال: ولكن طبيعة النفس الإنسانية.. فلا بد أن تطلبي؟!
- قالت: إن كل ما أطلبه.. هو أن يقدر هذا الحب.. أن يصونه ويرتفع به إلى دوافعه الأصيلة، وأن يتعمق به إلى جذور النفس والجوهر.. حينذاك تصبح الخلافات تافهة، وإذا وجدت فهي مؤقتة تتلاشى بنظرة.. بلمسة حنان.. بكلمة صدق!
- قال: الحب أسطورة.. إنه معنى خيالي، يحيا تحت الجفون المترعة بأحلام اليقظة، ويتجسد في سرحة بصر عبر تلافيف السحب ودكنة المساء!
- قالت: إنه أسطورة عند الذين لا يقدرون على الحب!
- قال: غربة الإنسان تتمثل في تناقضاته.. فهو يحلم ويتخيل ويشرد، وهو يغوص في أعماق نفسه حين يخلو معها.. لكنه مع الناس، في النهار والضجيج والانتظار.. يضع ذلك القناع الذي يخفي ملامحه الحقيقية.. بمعنى أن الإنسان يحيا معانيه وحده، ويمارس مادياته مع الناس، ويمارسها الناس معه!
- قالت: ولكن من تحبه ويشعر بعاطفتك.. لا يقدر أن يموّه عليك شعوره.. أننا قد نخفي شعورنا الحقيقي مرة، لكننا نفشل أن نكذب مرات!
- قال: أعرف ذلك.. غير أن الإنسان يخضع لأشياء أقوى منه.. لرغباته في الامتلاك التام، أو لأنانية العاطفة فيه.. فالامتلاك هو عاطفة أيضاً!
- قالت: نحن رهن لما نعطيه ونأخذه.. وتلك حصيلة الحياة، فلماذا تحاول الآن أن تهدم كل ما بنيناه بالحوار الطويل.. لتصل بنا إلى هذه الحصيلة؟!
- قال: إنني لا أهدم.. بل أهدف إلى بناء أساس قوي لصرح لا يتقوّض بعد فترة قصيرة!
- قالت: أنا كفيلة بالمحافظة على البنيان!
- قال: وأنا أحبك حتى آخر أنفاسي.
- قالت: وأنا أكتفي بأنفاسك ارتواء لظمئي، فاصمت، ودع اشتياقنا يتكلم!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :457  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.