-22- |
المكان: استقامة الظل.
|
الزمان: مقوس.
|
الصوت: قلب.
|
الرؤية: مسافة.
|
* * * |
- قالت له: الذي يحمله صوتي، ويطوف به مالئاً الأسماع والفراغ.. الذي أقوله أو أبوح به. أنا أتمسك به وأدافع عنه، لأنه صراحتي ورأيي ومشاعري.. فلماذا تثيرني إذن؟ |
- قال: أعرف مبلغ صراحتك.. فأردت أن أدعك تفيضين، ثم أراقب فيك مقدار إصرارك على ما قلت، وأدع كلماتي بعد ذلك تدخل إلى قناعتك! |
- قالت: لا أوافق أن أسحب كلامي بعد أن قلته.. لأن ذلك يعني أن ما أتفوّه به يدل على تفكيري الطويل فيه قبل إعلانه.. حتى إذا قلته ملأته ثقة! |
- قال: ولكن.. هناك البعض يتنكر لما قاله، أو لما أباحه من مشاعره.. حتى يشعرك أنه قد ندم، أو لم يكن واثقاً من قوله ومن بوحه.. إنه اللون من الناس الذي يحيل ذاكرته والتزامه ووفاءه إلى شيء يشبه ((المحاية))! |
- قالت: هذا اللون من الناس لا يستحق التذكر! |
- قال: وبعض آخر لا يشعر بالتبكيت حينما ينحدر إلى التنازل عن كلمة قالها، أو خفقة أفصح عنها.. ففي كل ثانية له عبارة ونظرة و ((جلسة)).. حتى تتكوّم الأشياء في الإنسان، وتقعي، و ((تتقرفص)) كما شكل إنسان يرتعش من البرد في ضلوعه! |
- قالت: هناك كلمات نقولها في المناسبات فقط، لكن.. ليست كل أيامنا تخضع للمناسبات، وليست كل الأيام فرحة، وليست كلها ترحة.. والناس لا يقاسون بتعبيرات وجوههم، بل بما ينعكس على مشاعرهم ونفوسهم.. وربما قلت لك الآن لفظة تغضبك، لكن ذلك لا يعني أنني قصدت إغضابك.. طالما أن قلبي يعمر بالحب لك والاقتناع بك! |
- قال: تبدئينني بهذا الحوار، لأنك شعرت أن كلمة قلتها هذا الصباح أحدثت ألماً في نفسي، وخوفاً على الحب بيننا.. فلماذا -إذن- رغبت أن لا تسحبي كلمتك رغم معرفتك بتأثري منها، وطلبت مني أن أسحب كلمتي ((الرد)) عليها؟.. وكيف تطلبين أن أتخلى عن الكلمات التي قلتها، ولا تتخلين أنت عن كلمتك؟! |
- قالت: لأنني قلتها لك بحب.. وأنت أجبت بتوتر حتى أغضبتني، ثم قدمت اعتذارك بعد ذلك! |
- قال: فعلت ذلك لإرضائك.. لأنني أحبك، ولا أريدك أن تتأثري مني بشيء يعكر صفاء المحبة بيننا، وهو صفاء نقي وصادق! |
- قالت: وأنا لم أعلق بعد ذلك! |
- قال: كان صوتك يسخن ويتحشرج ويضطرب حينما طرحت كلمتي الرد على مسامعك.. فلم يهن علي إغضابك! |
- قالت: هذا حدث لي بالفعل.. ولكنه لم يحدث لك.. كأنك كنت تكتم أو تكابر! |
- قال: لعلّها طبيعة الرجل.. بينما الأنثى عاطفية، سريعة التأثر، ولكن.. أية فكرة تهدفين إليها بهذا الاجترار لما حدث؟! |
- قالت: أن تبقى شجاعاً.. قل كلمتك بلا وجل طالما اقتنعت بها، ولكن.. عليك أن تكون مقنعاً ومنصفاً لضميرك ولوعيك! |
- قال: يعني ذلك.. أنك الآن لا ترفضينها؟! |
- قالت: لا أرفضها كتعبير مهذب يأتي من دوافع الحب.. غير أنه من المحتمل رفضها لو أنني لم أقتنع بها منك، ولو كنت أشك في حبك لي! |
- قال ضاحكاً: هل تعرفين ((جيتسكل)) أحد زعماء العمال السابقين في بريطانيا؟! |
- قالت: إننا نتحدث عن كلمة حب، وعن كلمة عتاب.. ولم نأت على ذكر ((تصنيع)) الإنسانية في قالب حب! |
- قال: ((جيتسكل)) ضروري الآن.. فقد التقى بزوجته قبل الزواج في احتفال له مناسبة.. وجذبت اهتماماته إليها، فتعرف عليها وعلى أسرتها، وأراد أن يقول لها كلمة، و.. تشجع، ثم قال لها: أتمنى أن أتزوجك، فأجابته بسرعة: اسحب عبارتك حالاً!.. واستغربت هذه الإجابة منها، فسألها: ولماذا.. هل أذيت مشاعرك؟!.. قالت: لا.. ولكنني أريدك أولاً أن ((تتمنى)) أن تحبني! |
- قالت: وما الذي رمزت إليه من سرد هذه الحكاية؟! |
- قال: إن ((جيتسكل)) كان قد صمم على الزواج.. أما أنا فقد صممت على الحب والزواج! |
- قالت: من أجل ذلك قلت لي: تعالي نعرف الحب أولاً؟! |
- قال: ومن أجل ذلك غضبت، وقلت لي: الزواج أولاً! |
- قالت: ولكن التجارب الإنسانية تدل على أن الحب بعد الزواج أكثر عمقاً، لأنه لا يتأسس فوق الحب فقط، بل وفوق القناعة والتمسك والإصرار! |
- قال: ولكني بتلك الكلمة لم أطلب منك الخروج على العرف والأخلاق!! |
- قالت: فماذا أردت إذن؟! |
- قال: أردت الدخول إلى التجربة من باب المعرفة أيضاً.. فالحب معرفة، لأنه يكشف أعماق النفس، ويضيء الروح لتلهم، ولتقرب. |
- قالت: لست ضد الحب بمعانيه السامية، ولكنني ضد ما قد يناله من تشويه، لو انساق اثنان في اندفاعاته إلى ممارسات محدودة بالرغبة! |
- قال: أو تخافين من الرغبة؟! |
- قالت: إنها فيما تلوح من غرائز الإنسان، أو أن الغريزة بذاتها رغبة.. قد تشتد فتصبح محمومة، وقد تنساب فتأخذ إلى ملمسها الناعم بلا حدود! |
- قال: وإذن.. هو الخوف؟ |
- قالت: الخوف بالفعل.. ولكنه خوف على الجوهر، وعلى القيم الأصيلة التي يمنحها الحب للإنسان فتشذبه، وتصقله، وترتفع به من ممارسة الرغبة، إلى سمو يتضاعف منه ذلك الاستمتاع الجميل بالأواصر، وبالرابطة التي تستمر مع استمرار الحياة.. ولا تنفصل أو تذوب مع برودة الرغبة! |
- قال: فهو التأكيد على قيمة محددة واضحة؟! |
- قالت: القيمة دائماً واضحة ومحددة.. ولكننا أحياناً نتغرب فيها، أو أننا نتسبب في تغريبها.. فما قيمة الحب والرابطة في غياب القيم؟! |
- قال: لا أختلف معك في ذلك.. فلو أسقطت القيم، يعني ذلك أنني أسقطت الحب، ويعني ذلك أنني لا أعاملك كحبيبة وغالية، بل كأنثى معجونة بالشهوة أو بالرغبة.. وهذا ما لم يخطر ببالي، وأرتفع بك عنه تماماً! |
- قالت: أعرف مشاعرك نحوي، وصدقك ونقاءك.. ولكنني أضع الحذر من بشريتنا، فالبشر يا حبيبي ضعاف أمام رغباتهم وشهواتهم، وذلك الضعف قد قتل أو اغتال الكثير من الحب الصادق! |
- قال: ولكنني أحافظ عليك كضمير، وكقيمة، وكشرف! |
- قالت: وهذا أعرفه فيك أيضاً، ولا أتهمك بالضعف وحدك، بل لعلّني أتهم نفسي أيضاً بذلك الضعف.. لأني أريدك وأتمناك ولا أطيق الحياة بدونك! |
- قال: أما ضعفك أنت فلا أحسبه ينجح أمام حذرك وتلفتك الدائم! |
- قالت: قد لا يكون تلفتي نحو أعماقك، فأنا خبرتك.. ولكنه التلفت نحو رغبتي فيك! |
- قال: لذلك تمعنين في الهرب مني؟! |
- قالت: بل الهرب من نفسي ومن ضعفي.. وأنت وحدك تستطيع أن تجعل ضعفي هذا لحظة سرمدية، تحملني إلى الحلم والارتواء، ومنحك السعادة! |
- قال: فهمت.. أن أفعل الخطوة التي أقدم عليها ((جيتسكل))؟! |
- قالت: لقد نعمنا بالتمني وقتاً مريحاً ونافذاً بنا إلى رؤية أعماقنا.. بمعنى أنك فعلت ما أرادته زوجة ((جيتسكل)).. وينبغي عليك أن تفعل بعد هذا، ما أراده ((جيتسكل))! |
- قال ضاحكاً: تحبين سياسة المواجهة؟! |
- قالت: لأنني أخاف من سياسة حافة الهاوية! |
- قال: وهل حبنا هاوية؟! |
- قالت: لو سقطنا في الرغبة وحدها.. أو لو واصلنا التمني، دون تجسيد الحب! |
- قال: وهل والدك من فئة العمال؟! |
- قالت: لا.. بل هو من فئة الزراع الذين يضعون النبتة في حقلها الصحيح، وفي أرض معطاء تطلع الثمر والحياة! |
- قال: لنبحث إذن عن الحقل! |
- قالت: أنت الحقل الذي يحتضنني نبتة، تتحول مع الأيام إلى جذع شجرة تمد الظلال والضيء، وتطرح أغلى ثمرة من رواء الحب!! |
* * * |
|