شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-20-
المكان: مدنية.
الزمان: مستمر.
الصوت: غريب.
الرؤية: خلفية.
الحكاية: إسكافي افتقر إلى الحب قبل المال، وسدت في وجهه كل السبل.. فخرج من بيته جاداً نحو الشاطئ ليقذف بجسده في اليم ويتخلص من عذابه.. وفي طريقه إلى حتفه، التقى به غريب عن المدينة، وطلب منه ثقاباً لإشعال سيجارته:
* * *
- سأله الغريب: هل أجد في مدينتكم إنساناً جائعاً؟!
- رد عليه الإسكافي: وما تبغي به.. هل تريد أن تتصدق عليه وتشبعه؟
- قال الغريب: بل لأنني إنسان جائع، وأبحث عن مثلي لنفكر معاً: كيف نأكل لنشبع.. وكيف نشبع لئلا نجوع بعد ذلك!
- رد الإسكافي: وهل تعتقد أن الذي يشبع لا يجوع أبداً؟!
- قال الغريب: الذي يشبع لا يجوع بسرعة، وقد يجتر من شبعه مثل اجترار الجمل، ولكن الذي يطمع هو ذلك الذي لا يشبع أبداً!
- قال الإسكافي: الطمع جوع لا ينتهي.. في كل شيء!
- قال الغريب: وهمومك أنت.. ما لونها؟!
- قال الإسكافي: ليس لها لون.. ولكنها تبدو مستمرة منسابة كالماء!
- قال الغريب: وهل تفكر في همومك بروح مرحة؟!
- قال الإسكافي: أستطيع أن أستمر في أعتى الهموم، شريطة أن لا تصل تلك الهموم إلى حريتي، وكرامتي، وشبعي، وارتوائي.. وأنت كيف تفكر؟!
- قال الغريب: لا بد أن أفكر في همومي بروح مرحة بقدر طاقتي، وأكثر لو استطعت.. ذلك، لأن في ذهني أفكاراً كثيرة، ومشاريع لا حصر لها، أود لو يتم تحقيقها في حياتي.. ولهذا لست في حاجة أن أموت برغبتي!
- سأله الإسكافي: حتى لو أصابك اليأس.. وسدت في وجهك السبل؟!
- أجابه الغريب: اليأس يا صديقي هو العجز.. والعجز هو الموت!
- سأله الإسكافي: وكيف تفلت من مطاردة العجز لك؟!
- أجابه الغريب: بالمواجهة.. بالتصدي للإحباطات.. بعدم التسليم للعجز، والكفاح ضده.. بأن أحاول من جديد.. بأن أحب الناس والحياة!
- قال الإسكافي: حتى الذين لا يحبونك؟!
- قال الغريب: الذين لا يحبون مساكين، مرضى.. يحتاجون إلى علاج يشفيهم من الأحقاد والكراهية، ليتذوقوا الحب.. وبالتالي ليحبوا الحياة والأحياء، بدلاً من أن يحبوا ذواتهم فقط!
- قال الإسكافي: وهل الحب يبدد اليأس؟!
- قال الغريب: الحب ضد العجز.. فإذا سقط العجز، لن تشعر باليأس!
- قال الإسكافي: ولكن الجائع لا يحب إلاّ بطنه!
- قال الغريب: الجوع أشكال يا صاحبي، وليس شرطاً أن تكون كل همومنا ومصائبنا منحصرة في جوع المعدة. ألم تسمع بمثل أجدادنا القديم: ((إملاها خروق، تروق))؟!.. كأن هذا المثل الشعبي يشير إلى أشياء أخرى أهم.. لو بلغها الجوع، فقد تقلب موازين كثيرة في الإنسان.. فهناك جوع العقل، وجوع العاطفة، وجوع الكرامة، وجوع النفس.. وكل ((جوع)) من هؤلاء، يستطيع وحده أن يخلخل أعماق الإنسان، أو أسرار الأمم!
- قال الإسكافي: هل تأتي معي لأطعمك؟!
- قال الغريب: ما الذي ستقدمه لي، وتطعمني منه؟
- قال الإسكافي: جائع.. وفيلسوف متكبر؟!
- قال الغريب: لست متكبراً إلاّ على عدم التحديد.. فأنت لم تسألني عن نوع الجوع الذي أودّ منك أن تشبعه في داخلي!
- قال الإسكافي: آه.. فهمت، فلعلّك لست تشكو من جوع المعدة؟!
- قال الغريب: أحسنت.. فلعلّني أشكو من جوع العاطفة، أو من جوع الكرامة، أو من جوع الضمير؟!
- قال الإسكافي: أما جوع الضمير، وجوع الكرامة.. وحتى جوع العاطفة، فلا أستطيع أن أقدم لك من عندي ما يشبع أي واحد منها.. فلو كان ضميرك يشكو من الجوع، فعليك في البدء أن توقظه.. إن يقظة الضمير وحدها هي التي تغذيه، وهي التي تشبعه!
- قال الغريب: ولو كانت كرامتي هي التي تشكو من الجوع؟!
- قال الإسكافي: عليك أن تستردها أولاً من الإهدار، وتدافع عنها، وتثأر لها.. فالإهدار هو جوع الكرامة القاتل!
- قال الغريب: ولو كانت عاطفتي..؟!
- قال الإسكافي: عليك أن تسمو بها أولاً عن الشهوات والماديات، وعن حب الذات.. فتشبعها وترغدها بذلك السمو!
- قال الغريب: ولكني أتعجب.. كيف أن إسكافياً مثلك يمتلك هذه الرؤية الباهرة، ولا أقول هذه الفلسفة؟!
- قال الإسكافي: لا تحتقر مضموني يا صاحبي.. فالحياة تعلمنا دائماً، طالما أننا نحترمها، ونكافح فيها، ونخوض التجارب!
- قال الغريب: إنني لا أقصد تحقيرك.. ولكني أبدي إعجابي برؤيتك، غير أني لاحظت عليك حزناً عميقاً، أكاد أن أراه يأخذك إلى اليأس؟
- قال الإسكافي: الحزن لا يؤدي إلى اليأس، ولكنه العجز وحده هو الذي يقتل الحوافز، والتفاؤل، والصمود!
- قال الغريب: دعني أولاً ألبي دعوتك.. فهل ستأخذني إلى دارك؟
- قال الإسكافي: أرحب بك.. برغم أن داري قد خلت من حياتها!
- قال الغريب: وما حياتها.. إفصح؟!
- قال الإسكافي: المرأة.. زوجتي التي بدأت معي مشوار الحياة، وشاركتني.. لقد تركت الدار، لأنها قالت: إنني رجل أصبحت أعجز عن منحها الحب، فقد افتقرنا بعد غنى، وقد تباعد قلبانا بعد توحد!
- قال الغريب: وهل كان الإسكافي غنياً في يوم ما؟!
- قال الإسكافي: كان الغنى في حياتنا هو الرضا والقناعة، ولكن زوجتي تغيرت!
- قال الغريب: لأنها نسيت الحب.. فلا ينبغي أن تنسى أنت أيضاً ذلك الحب، بل تذهب إليها وتقنعها، فإذا رفضت تكون هي لا تستحق الحب!
- قال الإسكافي: هل نعطي الحب.. حتى لو ضن به الآخرون؟!
- قال الغريب: أنت للناس وبهم، فإذا اعتبرت نفسك فوق الناس، أو أنك قدرة بدونهم، أو فرحاً بسواهم.. فأنت لا تحيا وإنما تتحطم، فالناس إن لم يمنحوك الحب، فهم على الأقل يذكروك به.. لأن الكراهية قوة محدودة، أما الحب فقدرة بلا حدود!
- قال الإسكافي: حتى ولو كان الحب بالوهم؟!
- قال الغريب: الوهم ضباب لا يجسد أحلامنا، ولكن.. قل: الحب بالخيال، فالخيال جميل لأنه أمنيات نفسك في صفائها.. أما الوهم فمرهق، لأنه رغائب نفسك في انشغالها وزحمتها!
- قال الإسكافي: ألا أصدقني من أنت.. فيلسوف، أم صاحب تجربة، أم معلم؟!
- قال الغريب: أنا هذا الغريب الجائع.. أبحث عن الشبع بحدود، وأكره الامتلاء بالتخمة!
- قال الإسكافي: وهل يمتلك الجوعى.. هذه القدرة على صد اليأس؟!
- قال الغريب: ألم نتفق في بدء حوارنا هذا، على أن الجوع ليس هو كل شيء، وليس هو جوع المعدة؟!
- قال الإسكافي: حسناً.. وما هو كل شيء؟!
- قال الغريب: كل الشيء.. هو القناعة، وهو شبع النفس، وشبع الضمير، وشبع الكرامة، وشبع العقل والعاطفة!
- قال الإسكافي: وما هو الأمر والأقسى من ذلك؟
- قال الغريب: الأقسى.. هو أننا ننسى الحب بعد الشبع!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :459  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج