شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-19-
المكان: جزيرة هادئة.
الزمان: ربيعي العمر.
الصوت: ناهد نحو الضوء.
الرؤية: جاذبية.
* * *
- قال لها: تبدين الآن كما لوحة باهرة.. غريبة في خطوطها، ولكنك واضحة الألوان!
- قالت: النظرات التي توقفت عندي، ورمقتني.. كانت تصفني بالجاذبية، فهل أنت تغازلني بهذا الوصف، أم تنتقد غرابة خطوطي كما تقول؟!
- قال: لا أغازلك وإنما أحاول أن أستوعبك، وأن أفهمك.. تماماً كاللوحة الجميلة ذات الخطوط الغريبة والألوان الواضحة!
- قالت: برغم أنك عرفتني من وقت طويل.. لكنك ما زلت تنتقد أو تتعجب أمام هذه الخطوط التي تصفها بالغرابة؟!
- قال: عرفتك وأعجبت بك، وأحببتك، لا خلاف على ذلك.. ولكنني في كل يوم جديد، أكتشف فيك معنى، أو صفة، أو..
- قالت تقاطعه: أكمل.. أو ((عيباً))، لذلك فقد قيل: إن كل إنسان يواري في داخله عيباً، حتى اللوحة الجميلة الباهرة.. تجد الناقد الذي ينقب فيها عن الخطأ الفتي، أو النقص.. ولست غاضبة منك، فكلنا هذا الإنسان.. ولكن الحب يغطي العيوب، بل ويجملها.
- قال: لقد استطردت في شيء لم يتبلور عندي بالشكل الذي توقعته.. فالعيب الذي أعنيه، لا يعني التشوّه، بقدر ما يبرز كفعل مكمل لطبيعة الإنسان، وقد أراه عيباً، ويراه غيري ملمح جمال، وهكذا!
- قالت: لذلك كله.. أردت أن أهرب من كل هذه التناقضات في عالمنا المزدحم حتى بوجهات النظر، فكان قراري.. هو أن أهرب إلى جزيرة بعيدة، أبتعد فيها عن التناقضات، وعن الأضداد، وأجد نفسي في هذا الهدوء الجميل.
- قال: ولكنه ليس هو الهدوء.. بقدر ما ينشر العزلة حولك!
- قالت: في الاعتزال داخل هذه الوحدة، نصفي أفكارنا بفلتر التأمل، ونراجع حسابات النفس، ونتأكد من هذا الحنين الكامن في أعماقنا: من ينادي، وإلى من يشرئب ويشتاق!
- قال: تعنين أنك لم تتأكدي بعد من حبك لي؟!
- قالت: الحب موجود.. والغائب عن هذا الحب هو اليقين، والصدق، والقدرة على حماية الحب ورعايته وهدهدته!
- قال: فكأنك ترغبين في الفرار مني؟!
- قالت: أرغب أن أفر من كل الصخب.. صخب الناس في كلامهم وجنونهم، وصخب الذين يطاردون جمالي ويحاصرونه باسم الحب ليمتلكوا هذا الجمال ثم بعد ذلك يستعبدونه.. وصخب نفسي التي عشقت إنساناً واحداً في كل هذا الزحام، ولم تقدر أن تقترب منه، أو تمتزج به!
- قال: تقييمك للحب في عصرنا مفجع وخطير؟!
- قال: عليك أن تكون أكثر دقة.. فهذا التقييم ليس للحب، لأن الحب واضح وصريح، وعفوي ونقي.. ولكن التقييم ينصب على المحبين أنفسهم.. على الناس وما يريدونه، وما يحتارون فيه، وما يفقدونه مع الأيام بسبب طبائعهم المتقلبة.
- قال: ولكن رحيلك إلى جزيرة نائية.. سيزرع الحزن في صدور من سيفقدونك: من أحبك، ومن رباك وكنت جزءاً من الأسرة فيه؟!
- قالت: نظرت إلى المحبين، فاكتشفت أنهم ألبسوا الحب هذا البنطلون المحزق!
- قال: والمجتمع.. والأسرة؟!
- قالت: نظرت إلى المجتمع كأسرة.. فهالني أن أرى بعض الأسر في المحكمة باسم الحب.. وهالني أكثر أن أرى الحب نفسه يتحول إلى متهم في قفص الإدانة.. والمتهم الحقيقي يقف في منصة المدعي العام.. والمحكمة تضج بالصخب ما بين الليل والنهار!
- قال: ولكن.. ما زالت الأكثرية خارج المحكمة.. تزرع المزيد من بذور الحب في الأرض، وفي أعماق النفس.. فهذه نظرة جائرة منك إذن؟!
- قالت: إنها إرادة الجاذبية.. وقد تعبت منها كثيراً.
- قال: فهل تتوقعين أن يخونك حبيب، أو أن يخذلك ويتنكر لحبك؟!
- قالت: بل كلنا نخون الحب بإرادة الجاذبية التي لا تبقى على حال واحد!
- قال: ولكنه شعور سوداوي قانط؟!
- قالت: لقد ترفعت بالشعور.. فما أقوله لك، هو ثمرة العقل والفكرة اللصيقة بطبيعة العصر الذي نحياه في هذا الزحام والصخب!
- قال: ولكن.. لو فكر الناس كلهم مثلك، وهرعوا إلى الجزر النائية، فماذا ستفعلين حينذاك؟!
- قالت ساخرة: أعود إلى المدن، التي تكون لحظتها قد خلت من الصخب والزحام، وأخذت دور الجزر البعيدة الهادئة!
- قال: وهل ستطيب لك الحياة في الجزيرة النائية.. مع الجرذان والسحالي ورياح القطب الشمالي؟!
- قالت: إن الحيوانات لا تغدر إذا عرفت صداقتك.. وخوفي من عنف الإنسان وحيوانيته، أشد برودة من رياح القطب الشمالي!
- قال: هل وصلت إلى حالة التشاؤم واليأس؟!
- قالت: بل إنني أعود إلى الطبيعة، وإلى الوضوح والنقاء.. فمدينتكم غابة كثيرة!
- قال: ولكن خبرتك قليلة لاحتمال هذه العزلة والوحدة؟!
- قالت: صحيح أنني في بداية العشرينات.. ولكنني ماهرة في العزف على الناس، وهذه ليست عزلة، وشاعرة أكتب للصيادين وللأسماك الصغيرة التي لا تعرف أن هناك حوتاً كبيراً سيلتهمها، وأرسم لوحات من الطبيعة التي أعيش في داخلها وهي من حولي.. والشعر والرسم لغة أخاطب بها هذا العالم الجديد علي، ويريحني الحوار الصامت.. لأنني أتلقى بعد ذلك أجوبة القمر، والشمس والريح والمطر، والبحر والأسماك!
- قال: أنت مجنونة بالفعل!
- قالت: جنون الحقيقة.. أم جنون الخيال؟!
- قال: بل هو جنون الخيال الذي أخذك إلى تصور عالم، لو عشت فيه يوماً واحداً، فلا بد أن تصابي بجنون الحقيقة!
- قالت: جنون الخيال أرحم من جنون الحقيقة.. فعندما تصاب بجنون الحقيقة، ستكون حياتك الباقية سلسلة من الاستفزازات، والخوف، والتقزز، والهلع.. لكن جنون الخيال، سيأخذك بعيداً إلى رؤى من الأحلام والخيالات العذبة والأماني!
- قال: ولكن.. كيف ستصلين إلى تلك الجزيرة النائية؟!
- قالت: أركب البحر إليها، ثم أحتلها!
- قال: وهل سيتركونك وحدك تحتلين جزيرة بكاملها بصورة غير مشروعة؟!
- قالت: إنني لا أحتلها بالسلاح، أو بالغزو.. بل أحتلها بالحب، باليد التي تمتد لتصافح، وبالذراعين اللتين تحتضنان كل جمال الجزيرة من طبيعة ومخلوقات لم تصل إليها أدوات الحضارة والمدنية.. وبذلك أثبت حسن نيتي، ولن يخرجني أحد بعد ذلك!
- قال: إثبات حسن النية في هذا الزمان يحتاج إلى العمر كله فهل ستبقين في الجزيرة كل عمرك لإثبات حسن نيتك؟!
- قالت: عندما لا يجدون معي سلاحاً، ولا يجدون في حقيبتي قلماً أكتب به، بل أقلام رسم فقط.. فلا بد أن يتأكدوا من حسن نيتي!
- قال: تريدين أن تتحولي إذن إلى ساحرة؟!
- قالت: بل أريد أن أبقى جميلة غير مهملة!
- قال: ومن الذي أهملك، أو أنكر جمالك؟!
- قالت: لا تخف.. لست أنت، ولكنه الزحام، ولكنه الصخب.. كلاهما يفتك بالجمال، وبالعفوية، ويطوح بجوهر النفس في القلق، وفي التوتر.. وأنت واحد من الضائعين في الزحام!
- قال: كأنك بهذه الفكرة تريدين أن تشتمي الحضارة عندما تلفظين كل ما نحياه؟!
- قالت: إنني أشتم المدنية، وأشتم الذين أساءوا إلى الحضارة.. ذلك أن الحضارة ليست شيئاً سيئاً، ولكن سوء استخدامنا لها جعل منها وفيها كل السوء!
- قال: ولكنني رغم ذلك أعتبرك ضعيفة وعاجزة جداً!
- قالت: كيف بالله عليك؟!
- قال: ضعيفة وعاجزة.. عندما فشلت أن تصنعي لنفسك الحياة التي تتمنينها.. والأنثى كما قيل: ((هي التي استدرجت الرجل من الغابة إلى المزرعة، ثم إلى البيت، ثم إلى الديسكو))!.. فإذا بك الآن تعودين أدراجك بالرجل إلى الجزيرة النائية، ثم إلى الغابة من جديد!
- قالت: إن الرجل ما زال يعتقد أنه هو الصياد الماهر.. يبحث عن الأنثى في غابة الحياة!
- قال: لقد اختلفت المفاهيم واستطاع العلم والوعي أن يرتفعا بقيمة التعامل بين الأنثى والرجل، ولكن.. رغم ذلك، فالحياة فيما يلوح لا تروض الأنثى.. بقدر ما تروض الرجل بأشياء كثيرة.. من ضمنها: أن الحياة تروض الرجل بالأنثى ذاتها!
- قالت: الأنثى لم تعد قادرة على ترويض الرجل.. ألم تقرأ عبارة الممثلة الشهيرة ((جنفيان كاسيل))؟!
- قال: لم تمر على قراءاتي أقوال الممثلات.. فماذا قالت؟!
- قالت: لها عبارة دقيقة، أجابت بها على سؤال وجه إليها بهذا المعنى: لو لم تكوني امرأة.. فأية شخصية تودين أن تكوني؟!.. فأجابت: أريد أن أكون ذلك الرجل الذي يمكن أن أعشقه!
فهذه العبارة تدل على تبعية الأنثى للرجل أيضاً!
- قال: ولكني أرى فيها معنى آخر.. فقد أرادت أن تؤكد أنانيتها، بجعل الرجل الذي تعشقه مثلها، أو أنه يصبح هي!!
- قالت: ألم أقل لك أن الجزيرة النائية أكثر راحة؟!.. إنك تحمل الكلمات معاني أكثر مما فيها، لظلم الأنثى.. بينما الأنثى بالفعل وبالعاطفة، وحتى بالانتماء.. لا تشعر بالأمان إلاّ في ضلع رجل!
- قال: لكننا كنا نتحدث عن الترويض، لا عن الأمان؟!
- قالت: سيان.. فالترويض بقناعة الحب، هو نفسه أمان!
- قال: وقرارك الأخير، هل سترحلين؟!
- قالت: أريد أن أرحل معك.. فأنا لم أكرهك بعد!
- قال: ولكنني لا أريد أن أعتزل الناس برغم كل ما تحاورنا فيه!
- قالت: ستتركني أرحل إذن؟!
- قال: ولن أتركك ترحلين أيضاً.. بل أعدك أن أبني لك داخل البيت الذي سيضمنا: جزيرة أحلامك، وألونها لك بالحب، وأنظفها لك من الجرذان والسحالي، وأزرع لك فيها الورود، وأنشر في أرجائها الدفء، بدلاً من صقيع رياح القطب الشمالي!
- قالت: وأبقى أنا اللوحة الرائعة في عمرك دوماً؟!
- قال: دوماً.. حتى في الخريف!!
- قالت: لقد ارتحت الآن، لأنك حضارة عمري.. ولكن راحتي مرهونة بالتجربة!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :535  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.