-18- |
المكان: فاصلة.
|
الزمان: حزن.
|
الصوت: كلمة.
|
الرؤية: نقطة.
|
* * * |
- قالت له: لاحظت عليك استخدامك للكلمات القاسية في تعبيرك، أو تصويرك للمشاعر! |
- قال: معنى الحوار يفرض أبعاد الكلمة.. فربما ترين القسوة في الكلمة، لكن المعنى يفرضها! |
- قالت: هذا فظيع.. أصبحت حتى في تعبيرك عن العشق، ومخاطبتك للروح، تضرب خاصرة الرقة في الكلمة الحميمة، فلماذا؟! |
- قال: الكلمة اليوم تأتي قاسية، حتى وهي جميلة.. تبدو مثل رنة حزن، حتى وإن كانت غزلاً أو بوحاً! |
- قالت: كانت كلماتك تنغل في الشرايين كعطش الفؤاد.. أصبحت اليوم تنغز الشرايين، وتزيد فوق عطش الفؤاد جفافاً.. وليس هذا هو الحزن، وليس هو الألم.. بل هي القسوة فقط.. فقط! |
- قال: إنني أعايش زمني، وأكذب لو افتعلت النجوى والإنسان في أعماقي يبكي أو يفارق العشق.. وأكذب لو قلت كلمة ناعمة رومانسية، وتعبير الإنسان من حولي نازف، وغريب، ومطحون في الألم، وفي قسوة الإنسان نفسه على الحب! |
- قالت: وهل أنت تعيش الكلمة القاسية بالفعل؟! |
- قال: بل أعيش الزمن القاسي.. ولا بد أن ينعكس بتأثيره على التعبير، وحتى على البوح. لقد عشت بالكلمة، وسأموت في أحضانها.. عشقت بها، وتفاءلت، وحزنت، وفرحت، وتألمت.. حتى أصبحت الكلمة نقطة من عرقي، وقطرة من دمي، وخفقة من أضلعي، وهمسة من صدقي، وآهة من ألمي، وتهليلة من فرحي! |
- قالت: ولكني أخاف عليك أن تهين كل هذه الكنوز بالقسوة؟! |
- قال: الذي يهين كلمته تقتله.. فالكلمة موقف، وهي قيمة الإنسان بعد أن كانت ميزته أيضاً دون المخلوقات! |
- قالت: فكيف إذن ترى الكلمة الآن؟! |
- قال: لقد ابتذلت كلمتان في حياة الإنسان.. هما: الحب، والحضارة! |
- قالت: تقصد أننا أسأنا تركيب المعاني في هاتين الكلمتين، وجنحنا باستعمالها؟! |
- قال: أسأنا ((بالذات)) إلى الحب، ومارسنا ((الذات)) الحيوانية، غير العاقلة باسم الحضارة! |
- قالت: وهل تحرم اللذة على الناس؟!.. إنك إذن لست حضارياً؟! |
- قال: الحضارة ما تعلمته من لذة في كلمة جبران مثلاً: ابتغوا اللذة في الألم! |
- قالت: أنت ((ماسوشي)) إذن؟! |
- قال: بالعكس.. إن ما استمتعنا به في كلمات جبران، وما كان متفقاً، متجانساً، ثم متضاداً.. هو ما نعيشه وما نشعر به في حياة تفيض بالمحبة وبالخير، ثم تتحول إلى جشع، وإلى ركض نحو الشهوة واللذة المادية والاستعلاء.. وفرق بين اللذة والشهوة، حتى في الشعور المادي هذه الأيام! |
- قالت: وهل الحضارة.. هي أن تجد كل شيء، في وقت قصير فقط؟! |
- قال: بكل أسف، نحن نعيش حضارة الوقت، وقد افتقدنا حضارة الزمان.. تلك التي تزيد الناس قناعة بالإبداع، وبالمحبة، وبالترابط العاطفي.. أما اليوم فيزداد الناس قلقاً، فلا يهتمون بالإبداع وإنما بالإسراع، ولا يهتمون بالمحبة وإنما بالمغبة.. فأغلب أشيائنا مؤقتة، ليس لها مكان واحد، وأغلب كلماتنا مؤقتة، ليس لها رأي واحد، وأغلب نتائجنا مؤقتة وسريعة، لأنها تخضع للوقت، وليست هي في حجم وقيمة الزمان! |
- قالت له: وكيف ترى الحب مبتذلاً؟! |
- قال: في كثير من الأشياء والمواقف.. ابتداء من الوسائل ((الحضارية))، وانتهاء بالإنسان ذاته.. فأنت تسمعين وتقرئين كلمة ((الحب)) في الصحف -والمجلات والإذاعات والسينما والفيديو والكتب أيضاً، فتكتشفين في وسائل حضارية أخرى أن كلمة ((الحب)) تخضع لأسلوب: ((إثبات الشيء نفيه))!.. بمعنى أن التعبير عن الحب وحتى ممارسته يتمان بالطريقة العكسية! |
- قالت: ولكن على الأقل.. هناك تذكير للناس بالحب؟! |
- قال: ليس هو التذكير.. بقدر ما هو الإمعان في إهدار كلمة الحب، وإهانة معانيها ونبل مقاصدها.. ولعلّ من السخرية أن نبحث عن هذه الكلمة في حياة الناس، فينبغي أن يكون البحث مضنياً، أو مسبباً.. إلاّ إذا كانت النتيجة المطلوبة تنحصر في الممارسة، أو في التعود، أو في ظاهر التعامل.. ولكننا نبحث عنها في العلاقات الإنسانية.. بين الابن وأمه، وبين الأخ وأخته، وحتى بين الرجل والأنثى.. فالإنسانية في النتيجة تبدو محدودة، أو مرهونة برد الفعل دائماً! |
- قالت: وفي العلاقات الحضارية؟! |
- قال: لن نجدها أيضاً، ولست سوداوياً أو متجنياً.. ولكن الحضارة أصبحت مصالح مشتركة، واستعراض قدرة وقوة.. لا استعراض عقل ورفاهة وجدان وصفاء روح وعاطفة! |
- قالت: والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات.. كيف تراها! |
- قال: إن الكثير من المجتمعات الحديثة.. يقوم على ((علاقة الوقت)).. بعد أن نسينا روابط الزمن، فالكثير من الناس قد انشغل بطموحاته المادية، وبغرائزه المتعددة.. فساء تقدير الحب إلى درجة مخيفة تهدد الوشائج والأواصر! |
- قالت مبتسمة: ولكن.. ألا ترى أن نسبة ((القبلات)) في العالم قد ارتفعت؟! |
- قال: أصبحت ((القبلات)) مسابقات، لمعرفة أطول وقت، وأطول قبلة.. ولكن الإحساس بالقبلة ومعناها يهدر في هذه الإحصائيات والمسابقات والعبث بقيم الحب، وبعطائه.. بمعنى أننا لم نكتف بالإساءة إلى تفسيرات الحب، فانسقنا إلى تشويه التعبير عن الحب! |
- قالت: إنني أفكر.. ماذا سيفعل أبناؤنا ثم أحفادنا بشفاهم وقلوبهم في النقلة الحضارية الأخرى؟! |
- قال: لا بد أنهم سيخترعون ((فرشاة)) لتنظيف القلوب في دورات مستمرة.. تماماً كفرشاة الأسنان التي نستعملها كل صباح. |
- قالت: وحتى هذه لن تفيد، طالما أن الإنسان أخذ يهين كلماته! |
- قال: إن الذين يهينون كلماتهم، لا يضيرهم أن يهينوا شفاههم، أو مشاعرهم.. لكن الأكثر فداحة في هذا العصر، يتمثل في إهانة العقل! |
- قالت: ها قد عدت إلى الكلمات القاسية؟! |
- قال: القسوة ليست في الكلمة، وإنما في الشعور بها.. في الهدف الذي قصد من وراء الكلمة! |
- قالت: ولكني، رغم كل ما قلته لي وحاورتك فيه، أود أن تبتعد عن هذه الكلمات القاسية في حواراتك.. لتكون الفيء والظل وصبابة الارتواء من هذا العطش الذي تجف به حلوقنا وصدورنا! |
- قال: هل أروي لك حكاية قصيرة عن أنثى كانت تفتش عن كلمة رقيقة، تعبر فيها عن فرحها؟! |
- قالت: ما هي الحكاية؟! |
- قال: كانت هناك أنثى من فيتنام، تملك مصنعاً صغيراً للملابس، وأعجبت برجل جاءت به ليدير هذا المصنع، فاتفقا على الزواج.. وقبل موعد الزفاف بيوم، نشرت تلك الأنثى إعلاناً في صحيفة، قالت فيه بمناسبة زواجها السعيد: ((يبدأ المصنع عمله هذا اليوم، ويسلم البضائع المطلوبة في العام القادم))! |
- قالت: حكاية بايخه.. حتى لو أردت أن تقول بهذه الحكاية شيئاً عن الأنثى، أو تنال منها! |
- قال: بل أردت أن أثبت لك أن القسوة أحياناً في المناسبة التي تدفعنا لكتابة الكلمة! |
- قالت: وأين القسوة هنا؟! |
- قال: القسوة على الرجل الذي سيتزوج بصفة مستمرة لعام كامل!! |
- قالت: سأقتلك.. ((سأرتكب فيك جناية))! |
- قال: إذن.. لقد وافقت أن نتزوج؟!! |
* * * |
|