شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-17-
المكان: صدر أنثى.
الزمان: مرهق.
الصوت: مجنح.
الرؤية: استفتاء.
* * *
- قالت له: هل لك أن تفسر لي.. كيف يخلو الحب بين عاشقين من مسيرة، وكيف يفتقر إلى نتيجة، وكيف تنهزم في هذا الحب كل حوافز الفعل الإنساني الذي يجعل من الإنسان مبدعاً، ومتألقاً، وخالياً من العقد؟!
- قال: يحدث ذلك عندما نحب، فنعجز أن نجعل الحب يتمرد على الخيال، وأن نجعله ينطلق إلى الرومانسية المغرقة في الصبر والتألم!
- قالت: ولكن الحب في تجاربه العظيمة يقف عند الصبر والتألم، ثم يتلاشى بالماديات؟!
- قال: تقصدين أن الناس اليوم يربطون العاطفة بالماديات، أو أنهم يرهنون الشعور بذلك التلقي من انتظارات المصالح.. أي أن يكون للشيء مقابل، وللفعل رد الفعل، أو للفعل أصداء تجعله أكثر نمواً؟!
- قالت: ألا تمارس ذلك كله؟.. ألا تجده صبغة للتعامل في كل مكان؟.. وإذن، فإن المبتدأ والخبر في علاقات الناس، تحكمهما بداية الشعور، وتحكمهما نهاية أفعال الشعور؟!
- قال: ذكرت البداية والنهاية، وأهملت ما بينهما.. وجعلت للشعور أفعالاً، فأنت تعنين: أن كل إنسان يحيل حياته إلى تجارب، وقد تكون التجارب مجرد ((حالات)) تتعدد، وتختلف حسب نفسية المرء، وحسب ما امتلأت به، وما جف فيها.. ولكني أعتبر ذلك كله توظيفاً للعاطفة من أجل أشياء الحياة، وليس فيه تواؤم أشياء الحياة مع العاطفة!
- قالت: في رأيي أنك أصبت في جانب، وأخطأت في جانب آخر.. فالتجارب في فعلها ليست الرداءة، ولكنها الاكتشاف والمعرفة واليقين في النهاية.. أما إذا أصبحت التجارب ((حالات))، فذلك يعود إلى نفسية الإنسان القلقة، أو الكاذبة، أو الضحلة المرهقة بالأسى أو بالفراغ.
- قال: وأين أصبت؟!
- قالت: أصبت.. حينما ترى الناس يوظفون عواطفهم هذه الأيام، ولكن الخطأ كله يتركّز في أن نعامل أشياء الحياة بالعاطفة، أو نحاول تبريرها بالعاطفة!
ولكني أتساءل: إذا غذتك عواطفك وشبعت، ثم مللت واتجهت إلى عاطفة أخرى.. ألست بذلك تخضع للبداية وللنهاية.. برغم كل ما كان بينهما من حياة؟!
- قال: أعرف أن العاطفة لا تشبع.. ولكنها لا بد أن تبلغ يوماً حدود الاكتفاء عند إنسان واحد، اختارته العاطفة ووجدت فيه كل الغذاء والرواء والعطاء، فلا ترى من يماثله في العطاء، فتتدفق العاطفة في أنسابها نحو ذلك الذي اختارته وسكنت فيه!
- قالت: وأحياناً تصاب العاطفة بالكآبة.. فلا تحب ولا تكره، وإنما تنعزل وتترمد؟
- قال: إنها الكآبة التي تقتل في الإنسان عفويته وصدقه ومرحه، والذين فقدوا المرح.. هم أنفسهم الذين قتلوا فيهم طبيعة الإنسان وأمان نفسه!
- قالت: فما الذي يحتاجه الإنسان لئلا يسقط في كآبة الشعور؟!
- قال: الإنسان يحتاج إلى التجربة والرؤية المباشرة التي تجعله أكثر نطقاً بشعور تحاول الكآبة أن تحيله إلى أكثر خرساً.. ولعلّ مشكلة الإنسان تكمن في حديثه الدائم عن أحلامه وإخلاصه وشفافية عواطفه، وأماني الخير فيه.. لكنه يكذب في كل مرة يتحدث فيها بهذه النسبة المهولة من الخيال!
- قالت: بمعنى أنك لا تريده رومانسياً، وإلاّ قتله الخيال؟!
- قال: بل أريده رومانسياً أحياناً، وعقلانياً أحياناً أخرى، فالرومانسي بلا إفاقة العقل لا بد أن يسقط في جنون الخيال.. والعقلاني في جفاف العاطفة، لا بد أن يحترق ويجف ويذبل بالظمأ في روحه!
- قالت: تقصد أن نخرج من زمن الروايات والشعر والأحلام؟!
- قال: أبداً.. لم أقصد ذلك مطلقاً، فأكثر الجفاف الذي أصابنا هو بسبب افتقارنا إلى الأحلام، ولكن العصر اليوم يؤكد لنا أن الإنسان الرومانسي هو المحدد في كل ما قرأناه وشاهدناه في الروايات القديمة.. عندما كان كاتب الرواية يصور نفسية ((البطل)) بالاستغراق التام في الرومانسية، ونلاحظ أن هذا البطل في عصرنا المادي اليوم.. قد ((بطل مفعوله))!.. فالناس أصبحوا يلاحقون زمناً جديداً وينسلخون من زمن قديم!
- قالت: وإذن.. فما قيمة الإنسان بلا روح، وبلا شعور يرق بالأحلام أحياناً حتى الرومانسية.. وما قيمة الإنسان بلا صهر ومعاناة، وبلا رؤية للحب تحقق له اكتشاف الإنسان فيه؟!
- قال: أعرف أنه يخسر قيمته بفقدان تلك الركائز الإنسانية، ولكننا قبل أن نناقش رومانسية العاطفة، ينبغي أن نفتش عن الأسباب التي قذفت بالإنسان إلى هوة من الكآبة والقسوة والرعونة والعنف.. لماذا فقد الإنسان تذكّره لعفويته، ولماذا تخلى عن مكاسب الروابط الإلزامية الإنسانية التي تجعله أكثر ارتباطاً بوالده، أو بوالدته، وأكثر التصاقاً بابنه، وأكثر وفاء لمن يعاشر ويعشق؟!
- قالت: كأنك ستطرح قضية معينة؟!
- قال: أعطيك مثالاً من خلال خبر نشرته صحيفة ((بكين)) عن رجل صيني حوكم بتهمة دفع والده إلى الانتحار، لأنه كان يضرب أباه ويشتمه ويمنع عنه الطعام، ويحرمه من الدفء.. فهل تصدقين هذا السلوك من إنسان يعيش في أجواء الحضارة والعلم والوعي، أو حتى من إنسان يعيش في فقر وفاقة وبدائية؟!.. لقد قال هذا الابن للجيران الذين أخبروه بأن والده ألقى بنفسه في البئر ليتخلص من معاملة ابنه القاسية: دعوه يشبع ماء!!
- قالت: وأين ذهبت كل المؤسسات، ودراسة الحالات الأسرية في العالم، والتعليم، والوعي، والحضارة؟!
- قال: كلها فشلت في الوقاية من هذا الانفصام أو هذا الشرخ البالغ في نفسية إنسان هذا القرن.. فالعاطفة غذاء وإشباع وامتلاك أيضاً.. ولكنه امتلاك القدرة وليس امتلاك القوة، فكأن الإنسان اليوم يعيش حالة الصدأ النفسي الذي يغلف ويكلس معاني الإنسان!
- قالت: والمستقبل؟!
- قال ضاحكاً: المستقبل؟!.. إن الولايات المتحدة تصنع بيوت المستقبل لمحدودي الدخل، والاتحاد السوفييتي يطلي هذه البيوت باللون الأحمر!
- قالت: دخلنا إلى السياسة إذن؟!
- قال: لقد فقدت السياسة الحب منذ انتشرت، وتلون الحب بالسياسة!
- قالت: والحب!
- قال: لقد صنعوا في ((كليفلاند)) بيوتاً تجففها الشمس، صالحة للحب السريع المتمشي مع عصر السرعة، ونسف البيوت، وتهديم الأسرة!
- قالت: وهل في أمريكا وأوروبا شمس؟!
- قال مبتسماً: هناك ألف شمس ((البارودي))!!
- قالت: أخذت تسخر، ولكني أريد معرفة بقية خبر البيوت التي تجففها الشمس، فلعلّنا أنت وأنا نشتري واحداً منها ونسكنه؟!
- قال: حسناً.. هذه البيوت مصنعة وليست وعداً من وعود العالم الحر، والراغب فيها، عليه أن يختار الرسم الذي يوافقه في مكاتب الشركة، وينفذ الهيكل من المعادن الخفيفة وتحمله طائرة هليكوبتر ويتم تثبيته، ويكسى الهيكل بعجينة من البلاستيك تجففها الشمس أولاً بأول!
- قالت: بمعنى أن هذه البيوت لا تصلح إلاّ للمناطق التي تشرق عليها الشمس في كل يوم؟!
- قال: بالضبط.. فهم يفكرون من أجلنا ليصلوا بنا إلى أقصى حدود الجنون! وإلى آخر دولار يسلبوه منا!
- قالت: وهل تحلم أن نسكن فيه معاً.. خاصة وأننا نريد بيتاً عصرياً، حضارياً، أنيقاً، وبسيطاً؟!
- قال: هذه يا حبيبتي تخرج من دائرة الأحلام.. إلى خيال الرفاهية التي لا تطيقها مناطق الشمس!
- قالت: فما هو الأحلى إذن؟!
- قال: الأحلى هو ((قوس قزح)).. فمن الصعب أن نتنكر للشمس!
- قالت: والمطر، والغيوم، والشتاء؟!
- قال: كلها تعني.. الهروب إلى العودة من جديد لأنفسنا.. فقد أكلتنا غربة الماديات، وسرقت أحلامنا خيالات كثيفة غير معقولة!
- قالت: وبيتنا الذي نحلم به؟!
- قال: بيت من الشعر.. بعيداً عن الكآبة!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :435  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج