-16- |
المكان: حضور بلا مساحة.
|
الزمان: حاضر في الماضي.
|
الصوت: أصداء كهف.
|
الرؤية: داخلية.
|
* * * |
- قالت له: ترى.. ما الذي يمكنك أن تختاره في الغد؟! |
- قال: في الأشياء الحميمة نحن لا نقدر أن نختار.. بل إن كثيراً من أشيائنا هي التي اختارتنا، وستختارنا! |
- قالت مازحة: هل تعني أن أشياء الإنسان ((رؤوية))؟! |
- قال: حدقي في الأفق وسترتاحين قليلاً، وستكتشفين أن الحياة لا تقبل رؤيتين في آن واحد، ولا تقبل رؤية لها انعكاس مضاد! |
- قالت: فماذا نحتاج؟! |
- قال: نحن نحتاج أكثر إلى لحظة إصغاء وتأمل.. إلى فيض من المحبة والقدرة على الصفاء.. والإنسان عندما يحب لا يختار، أو لا يكون هو الذي اختار من أحبه، ولكن الحب هو الذي يختارنا لهذا التحدي! |
- قالت: وهل تعتبر الحب تحدياً؟! |
- قال: وبالذات في عصرنا هذا.. أصبح الحب هو أكبر التحديات بما يواجه من موجات الكراهية، ومن الأمراض النفسية، ومن الفجيعة في وفاء الآخرين، أو في وفاء الزمن. |
- قالت: ولكن هذا التحدي يفرض علينا أيضاً أحاسيسنا والعالم الذي نعيش فيه.. إنه الحب الذي ينغل في أعماقنا ويهزها بقوة. |
- قال: إذا فرض الحب الأحاسيس علينا، فذلك شيء طبيعي، لأن الأحاسيس هي صوت ونطق وحركة الحب، وحتى الأمكنة التي نعيش فيها لا يشدنا إليها سوى الحب.. والذين يفقدون الحب في أوطانهم يهاجرون، والأوطان التي تكف عن منح الحب لأولادها تجف، وتتأخر، وتفرغ من صناعة المستقبل! |
ألم تقرئي هذه الحكاية المثال عن أعرابي آثر أن يبقى في الصحراء لا يبرحها إلى مدينة أو حواضر، فسئل يوماً: ((كيف تبترد بالبادية إذا انتصف النهار، وانتعل كل شيء ظله))؟! |
- قال الأعرابي: ((وهل العيش إلاّ هناك؟.. يركض أحدنا ميلاً فيرفضّ عرقاً كالجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، وتقبل عليه الرياح من كل جانب.. فكأنه في إيوان كسرى))! |
- قالت له: الله.. هذا هو الانتماء الحقيقي! |
- قال: بل هو الحب الأحق والأعمق.. ذلك الذي يشد خطوة المرء إلى كل حبة رمل، كما تشد أعماق الأرض جذور شجرة عتيقة إلى أغوارها. |
- قالت له: والحب إذا ما تغلغل في أعماق الإنسان، فإنه يدفعه إلى فقد القدرة على المجيء الدائم إلى تناقضات الناس!.. بمعنى: أننا عندما نحب نتغاضى عن النقائض والنقائص، ونرى بعين الحب جمال الإنسان والحياة والحركة؟ |
- قال: في الحب نفسه تجدين التناقض! |
- قالت: بجزع: كيف؟! |
- قال: إن الحب يتناقض مع البغضاء، ويتناقض مع العزلة والوحشة النفسية.. إنه يدفع بالمحب إلى رحاب شاسعة، وإلى رؤية ملونة بالفرح، بمعنى: أن الحب يقضي على الزوايا والظلال والأشباح.. وكل الأشياء التي أحببناها فاقتحمتنا، بادرنا إلى احتضانها.. وكل الذين أحببناهم تفتحوا فجأة في صدورنا، فاكتشفنا أنفسنا بواسطتهم، أو من خلالهم! |
- قالت باستفزاز: ما هذا.. ألا يحق للإنسان أن يرفض من أجل الحب؟! |
- قال: بل هناك مواقف أكثر إيلاماً.. عندما يضطر الإنسان فيها أن يرفض الحب نفسه! |
- قالت: وهل هناك من يرفض الحب؟! |
- قال: الذين تراكمت في نفوسهم الأحقاد، والذين فشلوا في الوصول إلى قلوب الناس، والذين لم تصهرهم تجربة الحب وإنما احترقوا في داخلها وتحولوا إلى رماد! |
- قالت: ولكنهم قلّة.. هؤلاء الذين جعلوا حياتهم احتجاجاً مستمراً على العواطف، وعلى عفوية الإنسان فيهم! |
- قال: نحن في معايشتنا، وحتى في عواطفنا.. لا بد أن نتغذى بالانتباه، ونغفو داخل لحظة واحدة عامرة بالحب.. تصبح فيما بعد في كثافة الشعور هي كلمتنا، وخفقتنا، وهمستنا، ومدينتنا. |
- قالت: فمن يعطيك أمومة الانتباه للحياة.. من ينسج في داخلك سهر الضياء.. من يدفعك لتخطو في داخلك إلى خارجك؟! |
- قال: الحب بالطبع.. وهو الذي يدعونا أن لا نحتج على عواطفنا، وإنما نشذبها، وننقيها باستمرار من الطحالب والمادية. |
- قالت: وما مدى الرؤية في كل هذا؟! |
- قال: الرؤية هنا مرهونة بتلقي الإنسان لما في إحساسه.. أن تترك الناس، أو أن يتركوك.. أن تحب الأنثى التي جذبتك بميزة واحدة فيها، أو أن تحبك هي ولا تندم.. أن تصير جبلاً أو تتدفق فتتحول نهراً! |
- قالت: أوه.. إنه دوّار، بالغ القسوة! |
- قال: ليس دائماً، ولا بهذا التشبع الذي بلغ فيك.. فنحن نطوّح بأجسادنا لنلعب ((المرجحة)) ولنلعب بأفكارنا وبأفكار الناس لو استطعنا. |
- قالت: والحب.. الحب يا سيدي هذا الذي تسمو به قبل قليل؟! |
- قال: ودائماً أسمو به، لأنه يسمو بالإنسان.. نحن نحتاج إلى الحب لئلا تتقشر معانينا فتصاب بالانبهات! |
- قالت: فقط.. لئلا تتقشر معانيك، ولئلا تصاب بالانبهات؟! |
- قال: أنت لست بدائية المشاعر، فلا تتحولي إلى أنثى لا يهمها سوى الذات والامتلاك! |
- قالت: تعرف أن حبي لك يختلط بدمي، ويتخطى علامات التعجب والاستفهام.. ولكنك جعلت الرؤية في الحب مرهونة بتلقي الإنسان، فلو جاءك مني صدود، أو بأداتك بخلاف في الرأي، فقد يؤثر ذلك على عاطفتك نحوي، وهذا خطير.. لأنك قلت: إن الحب يتجاوز الاحتجاج، فكيف توفقظ! |
- قال: لقد ربطت التلقي بما في الشعور والإحساس، ولم أربطه بما يمور في الذات البشرية من تقلب، ومن أنانية، ومن استعلاء أحياناً.. فالإحساس أمام الحب: تمازج وتفاعل ورغبة وعاطفة صادقة.. تبقى كلها حتى في حالة الصدمة أو الفجيعة فيمن نحب! |
- قالت: وما الذي تبحث عنه الآن؟! |
- قال: همسة جديدة.. تنفلت من بين منقار عصفور تائه! |
- قالت: ولكني لست هذا العصفور الذي تنتظر منه همسة تنفلت من منقاره! |
- قال: ولماذا غضبت من هذه الصفة؟! |
- قالت: لأنني في البدء والمنتهى أكون في حياتك كل شيء.. العصفور، والشجرة، والغناء، والمطر، والعشب، والنسمة.. ولأن الناس أصبحوا يقتلون العصافير في نفس اللحظة التي يصطادون فيها الإنسان أيضاً.. فأين ستجد الهمسة من القلب.. إذا كان القلب مذبوحاً؟! |
- قال: إنك في حياتي كل الأشياء التي ذكرت، ولكن العصفور عندي يمثل الفرح والانطلاق والحب.. والمحبة لم تبلغ هذه الدرجة من التشاؤم، بل إنني ما زلت أتفاءل بوجدان الإنسان رغم كل القسوة عليه ومنه على نفسه، وأتفاءل بقدرة هذا الإنسان على طرد الكراهية وشقاء التفكير.. إنني أعتذر عن التوقف لرؤية الذين يمارسون ((الحبو)) فوق أغراضهم فتضيع منهم مسافة الطريق، وهؤلاء يبقون خارج دائرة الحب! |
- قالت: وكيف تراني الآن؟! |
- قال: هذا العصفور الذي حط فوق شجرتي، ليغني ويدعها تنمو وتكبر وتزهر!! |
* * * |
|